كثيرة
هي الآيات التي تتحدث عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم، وتفضح ما هم عليه من
نفاق ورياء، وافتراق ما بين ظاهرهم وباطنهم، وفراق ما بين سرهم وعلانيتهم،
واختلاف ما بين ألسنتهم وقلوبهم .
يأتي في هذا السياق قوله عز وجل: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام }
(البقرة:204). والآية - كما يذكر المفسرون - جاءت كاشفة لصفات أهل النفاق،
فاضحة لما هم عليه من شقاق. ومع سبب نزول هذه الآية نجري الحديث في السطور
التالية .
يذكر المفسرون ثلاثة أقوال في سبب نزول هذه الآية:
أولها: ما روي عن قتادة و مجاهد وغيرهما، أنها نزلت في كل مبطن كفراً، أو نفاقاً، أو كذباً، أو إضراراً، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك؛ وهذا القول يشهد له ما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرظي،
قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنـزل: قوم يحتالون
على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون
للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب. يقول الله تعالى: فعلي يجترئون!
وبي يغترون! حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران. قال
القرظي: تدبرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه } .
وروى الطبري أيضاً عن أبي معشر نجيح ، قال: سمعت سعيداً المقبري يذاكر محمد بن كعب ، فقال سعيد :
إن في بعض الكتب أن لله عباداً ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من
الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، قال الله
تبارك وتعالى: أعلي يجترئون، وبي يغترون!! وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك
الحليم منهم حيران!! فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال
سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز وجل:{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام }، فقال سعيد : قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية! فقال محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامَّة بعد .
وهذا الذي روي عن محمد بن كعب قريب مما رواه الترمذي في "جامعه" عن ابن عمر رضي
الله عنهما، قال: إن في بعض كتب الله تعالى: إن من عباد الله قوماً
ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن
من اللين، يشترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبي يغترون، وعلي
يجترئون!! فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران. قال الترمذي : حسن غريب .
ثانيها: أن الآية نزلت في قوم من أهل النفاق، وفي هذا خبران عن ابن عباس رضي
الله عنهما: الأول: أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنا
قد أسلمنا، فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك، فبعث إليهم جماعة، فنـزلوا
ببطن الرجيع، ووصل الخبر إلى الكفار، فركب منهم سبعون راكباً، وأحاطوا
بهم، وقتلوهم وصلبوهم، ففيهم نزلت هذه الآية. رواه الطبري بسنده .
والخبر الثاني: أنه لما أصيبت سريَّة أصحاب خُبَيْب بالرجيع
بين مكة والمدينة، قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين
هلكوا هكذا! لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم! فأنزل الله
عز وجل في ذلك من قول المنافقين: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا }، رواه ابن أبي حاتم .
ثالثها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وهنا روايتان بهذا الخصوص: الأولى: أن الأخنس كان
قد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجبَ
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله
يعلم أني صادق! وذلك قوله: { ويشهد الله على ما في قلبه }، ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين ومواشٍ، فأحرق الزرع، وقتل المواشي. رواه الطبري عن السدي .
والثانية: أن الأخنس أشار على بني زهرة بالرجوع
يوم بدر، وقال لهم: إن محمداً ابن أختكم، فإن يك كاذباً كفاكموه سائر
الناس، وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به، قالوا: نِعْمَ الرأي ما رأيت،
قال: فإذا نودي في الناس بالرحيل، فإني أتخنس بكم، فاتبعوني، ثم خنس
بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمي لهذا السبب أخنس .
وقد ضعف الرازي هذه الرواية من جهة المعنى؛ لأنه - بحسب الرازي - ليس فيها ما يستوجب الذم، إذ إن قوله تعالى: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه } مذكور في معرض الذم، فلا يمكن حمله عليه، بل الرواية الأولى أقرب إلى الصحة .
ومما
هو جدير بالذكر هنا، أن الطبري لم يرجح أيًّا من الأقوال التي قيلت في سبب
نزول هذه الآية، ما يعني أن الروايات عنده متعارضة، وليس فيها ما يرحج على
غيره لاعتماده والقول به .
وإذا
تبين ما قيل في أسباب النزول، نضيف إليه أن المفسرين ذهبوا في تفسير الآية
مذهبين: الأول: يرى أن الآية خاصة بمن نزلت فيه من المنافقين .
والثاني: يرى أن الآية عامة في كل ما كان ظاهره خلاف باطنه. وهذا المذهب الثاني هو الذي عليه جمهور المفسرين، وهو الذي قال عنه الرازي : "هو اختيار أكثر المحققين من المفسرين، أن هذه الآية عامَّة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة". وقال عنه ابن كثير : وهو الصحيح .
وعلى
ضوء ما ذُكر من أسباب في نزول هذه الآية والمراد منها، نقول كلمة: إن على
المسلم أن يكون ظاهره كباطنه في جانب الاعتقاد وجانب السلوك، بحيث يكون
عمله ظاهراً متوافقاً لما يعتقده باطناً، فلا يليق بمن يشهد أن لا إله إلا
الله، أن يعمل أعمالاً تخالف ما يعتقده؛ فإن الذي يتناقض ظاهره وباطنه،
ويتنافر مظهره ومخبره، حريٌّ به أن يتصف بوصف النفاق، وأن يكون من أهل
الشقاق، وليس جديراً بأن يكون في عداد المسلمين الصادقين .