قصة أخرى
هذه القصة حصلت مع أبي بكر - رضي الله عنه- وربيعة الأسلمي - رضي الله عنه- وفيها شيء مما يجب أن يكون أيضاً في الخصومة بين الإخوان، وهذه القصة سندها جيد رواها الإمام أحمد - رحمه الله- في مسنده عن ربيعة الأسلمي قال: (كنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ربيعة ألا تزوجت؟ قلت: والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج - عرض عليه الزواج لما في الزواج من صيانة العرض والدين-قال: ما عندي ما يقيم المرأة؛ - نفقة ما عندي- وما أحب أن يشغلني عنك شيء. أخشى أن الزوجة تشغلني عنك وعن خدمتك يا رسول الله! يريد أن يخدم النبي - عليه الصلاة والسلام- بنفسه، ويوقف نفسه عليه، فأعرض عني - ترك دعوته إلى الزواج- فخدمته ما خدمته ثم قال لي الثانية: - بعد مدة-يا ربيعة! ألا تزوجت فقلت: ما أريد أن أتزوج ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء فأعرض عني ثم رجعت إلى نفسي فقلت: والله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني. يعني أنا الآن راغب عن الزواج من أجل الأجر في خدمته - عليه الصلاة والسلام- لكن هو الذي أشار علي بالزواج فمعنى زواجي فيه أجراً أكثر، والله لئن قال: تزوج،لأقولن: نعم يا رسول الله! مرني بما شئت، قال فقال:يا ربيعة في المرة الثالثة "ألا تزوجت، فقلت: بلى، مرني بما شئت قال:انطلق إلى آل فلان - حي من الأنصار- وكان فيهم تراخ عن النبي - صلى الله عليه وسلم- يعني ما كانوا يواظبون على حضور مجالسته - صلى الله عليه وسلم- لأجل مشاغلهم الضرورية من كسب العيش وغيره.انطلق إليهم فقل لهم: إن رسول الله أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة لامرأة منهم – أي أرسل إلى قوم معينين إلى امرأة معينة، فذهبت فقلت لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة فقالوا: مرحباً برسول الله وبرسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والله لا يرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلا بحاجته) – أي وقد قضيت حاجته- فزوجوني وألطفوني، وما سألوني البينة، وما سألوا عني، ولا أستوظحوا خبري، ولا عن أخلاقي وديني، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حزيناً. فقال لي:مالك يا ربيعة؟! فقلت: يا رسول الله أتيت قوماً كراماً فزوجوني، وأكرموني، وألطفوني، وما سألوني بينة، وليس عندي صداق؛ لأنهم وثقوا ما دام من عند النبي - عليه الصلاة والسلام- فلم يسألوا عن شيء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :(يا بريدة الأسلمي اجمعوا له وزن نواة من ذهب) قال: فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي، فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: (اذهب بهذا إليهم فقل هذا صداقها) فأتيتهم فقلت: هذا صداقها هذا مهرها. فرضوه وقبلوه، وقالوا كثير طيب. قال: ثم رجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حزيناً. فقال:يا ربيعة مالك حزين؟! فقلت: يا رسول الله ما رأيت قوماً أكرم منهم رضوا بما آتيتهم، وأحسنوا، وقالوا: كثيراً، طيباً، وليس عندي ما أولم،-أي انحلت مشكلة العقد، والبنت وجدناها، والمهر أديناه، ولكن بقي الوليمة - قال: (يا بريدة اجمعوا له شاة ) تأمل كيف تنحل المشاكل في العهد النبوي!! في سرعة فائقة، فليس في ذلك العهد مشاكل تتوقف لمدة سنة أو سنتين؛ وإنما أجمعوا لأخيكم، فالأمور ميسرة وبسيطة، والأمور تمشي بسهولة، والمهم هو أن يحصل الزواج والعفاف، قال: فجمعوا لي كبشاً عظيماً يعني ما يكفي لشراء كبش كبير سمين فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (اذهب إلى عائشة فقل لها فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام .-والمكتل: الزنبيل وعاء يسع خمسة عشر صاعا-ً قال فأتيتها فقلت لها: ما أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت: هذا المكتل فيه تسع آصع شعير بسعة صاع . آصع: جمع صاع ويجمع أيضاً على أصوع وصيعان. "لا والله إن أصبح لنا طعام غيره" خذه والله ما عندنا طعام غير هذا الذي طلبه النبي - عليه الصلاة والسلام- أن تأتيه به فكل الموجود تسعة أصواع من الشعير عندنا!! هذا كله الذي في مطبخ عائشة إذا كان لديها مطبخ وهي حجرتها – رضي الله عنها- ولما لم يكن عندها إلا تسعة آصع من الشعير، لم تبخل به، لأنها لم تكن بخيلة في يوم من الأيام، ولأن زوجها كريم، فأخذته فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم- فأخبرته ما قالت عائشة فقال: (اذهب بهذا إليهم فقل: ليطبخ هذا عندكم خبزاً، فذهبت إليهم، -أي أهل العروس- وذهبت بالكبش، ومعي أناس من أسلم، فقال: ليصبح هذا عندكم خبزاً،وهذا طبيخاً، - أي أنا أحضرت لكم المواد الخام وأنتم عليكم الصناعة والطبخ، وهذا الكلام كله موجه لأهل العروس!!. فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه وأما الكبش فأكفونا أنتم، - هو أخذ أناس من جماعته من بني أسلم فقال أهل العروس: الخبز مقدور عليه عندنا في من يخبز، وأما الكبش فعليكم تأمل معي - سبحان الله-!! سهولة، ورغبة، وتعاون فليس هناك اعتراضات (مثل، لا، نحن، أنتم، علينا، عليكم!!) .تأمل معي كذلك في زمننا أحد الأخوة يقول :ما ذهبنا نناقش في موضوع زواج أحد الأقارب، لما جلسنا مع الرجل وأبيه كان نقاش عجيب قال حتى إن أباه قال: البيبسي على من؟!! فقال له لأخ مستغرباً لمثل هذه الشروط الببسي على من؟!! قال: لا بد لكل شيء من أن يكون واضحاً! قال ربيعة: فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت ودعوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلو قلنا ما علاقة هذه القصة بموضوعنا الأصلي؟ وهو كيف يتعامل الإخوان مع بعضهم إذا حصل بينهم سوء تفاهم، واختلاف في أي أمر من الأمور؟! وكيف يمكن تدارك الخطأ، وطلب المسامحة والاعتذار؟ فنقول: إنه جاء في القصة هذه أن ربيعة الأسلمي قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أعطاني أرضاً بعد الزواج، جاءه الخير وفتح الله عليه([9])، وأعطاني أبو بكر أرضاً وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة. (المشكلة إذا جاءت الدينا!!) ويبدوا أن بعض الشراح قال: إن كلمة (أعطاني) خطأ من بعض النساخ وأن الصحيح (أعطاني أرضاً وأعطى أبو بكر أرضاً) فقلت أنا: هي في حدي وقال أبو بكر: هي في حدي.. فكان بيني وبين أبي بكر كلام فقال: أبو بكر كلمة كرهها وندم أثناء المحاورة. فقال لي يا ربيعة: رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً، فالآن أبو بكر - رضي الله عنه - قال كلمة في الحوار غليظة فندم مباشرة على أن قالها. وهذه هي العظمة في هذا الشخصية المباركة أنه ندم على الكلمة فوراً، وفي مثل هذه الحالة الكلمة قد خرجت منه ولكن ما هو الحل؟ قال أبو بكر لربيعة الأسلمي: رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً. أي يقول له اقتص مني فقل لي مثلما قلت لك، فمثلاً لو قلت لك: يا غبي !فلا بد أن تقول لي يا غبي، حتى تصير قصاصاً واحدة بواحدة، ولو قلت لك :يا طماع فلابد أن تقول لي يا طماع، فتصير واحدة بواحدة. فأبو بكر يصر على القصاص؛ لأن القصاص في الدنيا أهون من القصاص في الآخرة. قال ربيعة قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله – صلى الله عليه وسلم- اشتكيت فقلت: ما أنا بفاعل، قال: ورفض الأرض – أي أبو بكر ترك العذق – وقال: خذ النخلة وترك الأرض التي فيها العذق المتنازع عليه- تركها لربيعة تكرماً منه- وبقيت الكلمة التي أسأته والتي قالها لأخيه هي المشكلة الوحيدة ؛أما الأرض فتركها لربيعة وانطلق أبو بكر - رضي الله عنه- إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- قال ربيعة : وانطلقت أتلوه - يعني أتبعه- فجاء ناس من أسلم من قبيلة ربيعة الأسلمي فقالوا لي: رحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو قال لك ما قال؟! يعني يشتكيك على ماذا؟ وهو المخطئ؟!! فقلت: أتدرون ما هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيغضب لغضبه، فيغضب الله - عز وجل- لغضبهما فيهلك ربيعة!، قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، جاءوا لينصروا صاحبهم فقال لهم ارجعوا. قال: فانطلق أبو بكر - رضي الله عنه- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فتبعته وحدي - بدون جماعة- حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه - صلى الله عليه وسلم- فقال لي: يا ربيعة مالك وللصديق؟! قلت: يا رسول الله كان كذا وكذا، قال لي كلمة كرهها فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصاً فأبيت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:"أجل فلا ترد عليه، ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر" فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، قال الحسن: فولى أبو بكر - رضي الله عنه- وهو يبكي"([10]).
التعليق على القصه
فالتشابه بين القصتين أيضاً أنه حصل شيء من سوء التفاهم بين أبي بكر - رضي الله عنه- وبين ربيعة الأسلمي – رضي الله عنه -؛ هي السرعة العجيبة في رجوع أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- والاعتذار والتنازل عن الأرض أصلاً. ثم إن ربيعة - رضي الله عنه- يعرف قدر الصديق ولذلك قال: أتدرون ما هذا هذا أبو بكر الصديق، ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين. هذا شيبتنا، وهذا كبيرنا فهذا لو غضب ربما يغضب الله علنيا ! فبسبب أننا إذا أغضبناه ربما يغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يغضب الله علينا. كذلك فإن ربيعة لم يرد أن يتكلم على الصديق؛ لأنه يعرف أن الصديق مقامه عظيم، فاستعظم أن يرد عليه، فهو لم يرفض أن يرد عليه لأجل إحراج الصديق، ولكن قدر الصديق وفضله وعظمته عنده، هو الذي منعه أن يرد عليه، فكيف يتقص منه وفي مثل هذه الحالة؟ ما هو الحل؟ الحل: أن يقول المخطأ عليه للمخطئ غفر الله لك، وهو ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم- لربيعة، فقال له: لا ترد عليه، ولكن قل: "غفر الله لك يا أبا بكر فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر". وفيها خوف الصديق ورقته، وتأثره، وكيف أنه ولى وهو يبكي.
فوائد القصه
تيسير الزواج، والمهور، وكيفية استقبال الناس لصاحب الدين إذا جاءهم يريد الزواج منهم، وكيف يجمع المهر، وكيف تيسر الأمور، وكيف حل المشكلات بين أهل الزوجة والزوج، وأهل الزوجة والشخص المتقدم، وكيف أن الدنيا سبب المشكلات بين الناس عامة، والإخوان خاصة.
وأهم هذه الفوائد :
1) ما قاله ربيعة: (وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة) فطيلة الحياة تمشي الأمور بالأخوة بدون اختلاف، فإذا جاءت الدنيا فكل واحد يقول: أعزل نصيبي عن نصيبك، وهنا يحدث الخلاف، فهذه الدنيا سبب الخلاف،وهي التي تجر إلى الخصومة؛ ثم تجر إلى الكلام الذي لا يليق بين الإخوان.
2) كيف أن الصديق أراد أن يتحلل من أخيه في الدنيا قبل الآخرة.
3) أن الإنسان لا يستعين بقوم على الباطل: فالنبي - عليه الصلاة والسلام - أخبر أن الذي يعين قومه على غير الحق مثل البعير المتردي بذنبه، فإذا تردى الإنسان بذنبه فهل لأحد يخرجه؟! أو تردى في بئر هل لأحد أن يسحبه؟! لا يمكن ذلك أبداً، ولذلك يدفعونه إلى الهلاك دفعاً، فرجوعه صعب إذا قام قومه معه في الباطل؛ فإن رجوعه صعب فهذه قصة الصديق - رضي الله عنه- في الأثنتين
تبين أشياء كثيرة من حقوق الإخوة، ماذا يجب أن يكون عليه الحال بين الإخوة؟ وتبين الخلاف بينهم لا يمكن منعه بالكلية لكن إذا حصل ما هو الموقف الصحيح كيف تعالج الأمور