من
الشُّبه اللغوية التي تعلق بها من يريد الطعن في القرآن الكريم، وبالتالي
الطعن في هذا الدين، ما جاء في قوله تعالى في آية البِرِّ: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء } (البقرة:177) والشبهة التي تعلقوا بها هنا تقول: الصواب أن يقول: ( والصابرون ) بالرفع، لأنه معطوف على قوله: { والموفون بعدهم } والمعطوف على المعطوف يأخذ حكمه، رفعًا ونصبًا وجرًا .
وقد أجاب العلماء على هذه الشبهة، فقالوا: إن { مَن } في قوله تعالى: { ولكن البر مَن آمن بالله... } اسم موصول يفيد الجمع، وهو في محل رفع، وتقدير الكلام: ( لكن البر المؤمنون والموفون..) ثم قالوا: { والصابرين } هو صفة لـ { مَن } في قوله تعالى: { ولكن البر مَن آمن }
نُصب على وجه المدح؛ لأن من شأن العرب - إذا تباعدت صفة الواحد - الاعتراض
بالمدح والذم، بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا أُخر؛ فمن أمثلة المدح
نصبًا في كلام العرب، قول شاعرهم:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليثَ الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الامور بذات الصليل وذات اللجم
فنَصَبَ
( ليثَ الكتيبة ) و( ذا الرأي ) على المدح، مع أن الاسم قبلهما ( الملكِ
القرم ) مخفوض، لأنه من صفة واحد، لكن نصبه على سبيل المدح والتنبيه؛ ومنه
قولهم:
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرًا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنوا أحدًا والقائلون لمن دار نخليها
فنَصَبَ ( الظاعنين ) على المدح، وحقه الرفع، بدليل قوله بعد: ( والقائلون ) .
ومثله أيضًا، قول قائلهم:
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هموا سُم العُداة وآفة الجُزْر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأُزْر
فنَصَبَ ( النازلين ) على المدح، وحقه الرفع، بدليل قوله بعد: ( والطيبون ) .
ومن النصب على المدح أيضًا، قوله تعالى: { والمقيمين الصلاة } (النساء:162) مع أنه معطوف على مرفوع، وهو قوله تعالى: { لكن الراسخون في العلم } (النساء:162).
ومن النصب على الذم، قوله تعالى: { ملعونين أينما ثقفوا } (الأحزاب:61) فنصب على الذم .
ومن أمثلة الرفع في موضع النصب للغرض السابق، قوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون.. } (المائدة:69) فرفع { والصابئون.. } مع أنه معطوف على اسم { إنَّ } المنصوب، وحقه أن يقول: ( والصابئين ) لكن عدل عن ذلك، جريًا على عادة كلام العرب وسَنَنِهم في التنبيه والتخصيص، ونحو ذلك .
قال سيبويه في باب ( ما ينتصب على التعظيم والمدح ): وإن شئت جعلته صفة، فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته؛ قال: ولو رُفع { والصابرين } على أول الكلام كان جيدًا، ولو ابتدأته فنصبته على الابتداء كان جيدًا .
ثم
إن هناك من وجَّه الآية، فقال: النصب في الآية إنما هو من باب الاختصاص،
وهو قريب مما تقدم، قالوا: والعرب تنصب على المدح وعلى الذم، كأنهم يريدون
بذلك إفراد الممدوح والمذموم، ولا يتبعونه أول الكلام؛ وعليه فإنما نصب { الصابرين }
على الاختصاص؛ مدحًا لحالهم، وحثًا على سلوك طريقهم، لشدته وصعوبته.
قالوا: والنصب - على هذا - بفعل محذوف، تقديره: وأمدحُ الصابرين، أو أخصُّ
الصابرين، ونحو ذلك مما يقتضيه السباق والسياق، وباب ( النصب على الاختصاص )
باب واسع في كلام العرب .
قال الخليل بن أحمد : والعرب تنصب الكلام على المدح والذم، كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم، فلا يتبعونه أول الكلام .
وقال أبو عبيدة : النصب على تطاول الكلام وتباعده، ومن شأن العرب أن تغيِّر الإعراب، إذا طال الكلام وبَعُدَ النسق .
وقال صاحب "الكشاف": النصب على المدح، باب واسع، كسَّره سيبويه على أمثلة وشواهد .
قال أهل اللغة: وهذا أسلوب واسع ومعهود في كلام العرب، لا مطعن فيه من جهة الإعراب .
ثم
قال في "الكشاف" حول الشبهة التي نحن بصددها : ولا يُلتفت إلى ما زعموا من
وقوعه لحنًا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم يعرف مذاهب العرب، وما
لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان. وقد عقب الشيخ ابن عاشور على قول الزمخشري بقوله: إنَّ تكرره وتقارب الكلمات يربأ به عن أن يكون خطأ، أو سهوًا، وهو بين كلمتين مخالفتين إعرابه .
على أن هناك من القرَّاء من قرأ { والصابرون } بالرفع، عطفًا على { والموفون بعهدهم } وهذه قراءة يعقوب ، وهي قراءة متواترة؛ وعلى هذه القراءة فلا مطعن لطاعن في الآية .
فإذا
تبين هذا، وعُلِمَ أن الأمر جارٍ وفَقَ سَنَن لسان العرب ولغتهم، لم يبق
متمسك لأصحاب هذه الشبهة، بل العيب فيهم إذ جهلوا لغة العرب وأساليبهم في
نظم الكلام وسبكه، وكفى بالمرء عيبًا أن يقول ما لا يعلم، فكيف إذا كان
يطعن فيما لا علم له به ؟! نسأل الله أن يبصِّرنا الحق ويرزقنا اتباعه،
ويجنبنا الزلل والخطأ .