من الشبهات المتعلقة بالجانب اللغوي في القرآن الكريم، والتي أثارها ويثيرها المغرضون، بين الحين والآخر، شبهة تتعلق بقوله تعالى: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } (البقرة:17) وحاصل ما تعلقوا به من شبهة في هذه الآية، أن الضمير في قوله تعالى: { بنورهم } هو ضمير جمع، قد عاد على ضمير مفرد، هو قوله تعالى: { ما حوله } فكيف صح هذا، إذ هو مخالف لأسلوب اللغة العربية، وسَنَن أهل الفصاحة والبيان ؟
ولكشف ركاكة هذه الشبهة، وبيان وجه الصواب في الآية الكريمة، نقول: إن اسم الموصول { الذي } في قوله تعالى: { كمثل الذي } اسم ناقص، يُعبَّر به - كما يقول أهل اللغة والبيان - عن المفرد والجمع، قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
ووجه
الدلالة في البيت، عَوْدُ ضمير الجمع في قوله: ( دماؤهم ) على اسم الموصول
( الذي ) فدل ذلك على أن اسم الموصول ( الذي ) يُعَبَّر به لغة عن المفرد
والجمع .
وقال ابن جرير الطبري في "تفسيره": وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال تعالى: { رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشي عليه من الموت } (الأحزاب:19) فمثَّل حال المنافقين، وما هم به من خوف وفزع، بحال الذي يُعاني سكرات الموت وشدائده .
ووجه آخر ذكره ابن عاشور هنا، هو أن جمع الضمير في قوله سبحانه: { بنورهم }
إنما كان مراعاة للحال المشبَّهة، وهي حال المنافقين، لا للحال المشبه
بها، وهي حال المستوقد للنار، على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي،
وهو انطماس نور الإيمان منهم؛ فالضمير في الآية عائد إلى المنافقين، لا إلى
اسم الموصول { الذي } .
يؤيد هذا، ما قاله ابن عباس رضي
الله عنهما في معنى الآية، قال: ( نزلت هذه الآية في المنافقين، يقول:
مثلهم في نفاقهم، كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة، فاستدفأ،
ورأى ما حوله فاتقى مما يُخاف، فبينا هو كذلك إذ طُفئت ناره، فبقي في ظلمة
حائرًا متخوفًا؛ فكذلك حال المنافقين، أظهروا كلمة الإيمان وأمنوا بها على
أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف ) .
ويقوِّي
هذا، أن التمثيل في الآية جَمَعَ بين ذكر المشبه وذكر المشبه به، فالمتكلم
بالخيار في مراعاة أي الأمرين شاء، لأن الوصف لهما، فيكون ذلك الوضع نوعًا
واحدًا في المشبه والمشبه به .
وبناء على ما تقدم، يكون ما في هذه الآية، موافقًا لما في الآية بعدها، من قوله تعالى: { يجعلون أصابعهم في آذانهم } (البقرة:19) .
على أن الزمخشري صاحب تفسير " الكشاف " جوَّز أن يكون قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم } جملة مستأنفة، ويكون التمثيل قد تمَّ عند قوله سبحانه: { فلما أضاءت ما حوله } ويكون جواب { لما } محذوفًا دلَّ عليه الجملة المستأنفة .
وبهذا يتبين أنه لا وجه لما تعلق به أصحاب هذه الشبهة، وأن الكلام مستقيم من أوله إلى أخره، ويأخذ بعضه برقاب بعض .
نسأل الله أن يهدي قلوبنا للحق، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .