من الشبه اللغوية التي أثيرت حول القرآن الكريم، ما جاء في سورة المائدة في قوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } (المائدة:69) قال أصحاب هذه الشبهة: لِمَ لم ينصب المعطوف { الصابئون } على اسم { إن } وهو { الذين آمنوا والذين هادوا }
ومقتضى القواعد النحوية أن يقال: ( والصابئين ) لأن اسم ( إنَّ ) منصوب،
وما عُطف عليه فحقه أن يكون كذلك، ورفعه من الخطأ البيِّن. هذا ما قالوه في
هذه الآية، والرد على الشبهة بأن يقال:
إن
مجيء الآية على النحو الذي جاءت به، هو وجه من وجوه بلاغة القرآن، وجانب
من جوانب إعجازه، يوضِّح هذا ويؤكِّده ما جاء عن أئمة اللغة في توجيه هذه
الآية الكريمة .
قال الخليل و سيبويه :
رفع ( الصابئون ) في الآية محمول على التقديم والتأخير؛ والتقديم والتأخير
أمر جار ومعهود في كلام العرب، وهو كثير في القرآن الكريم، يعلمه كل من
كان على دراية وعلم بلغة القرآن وأسلوبه، قالوا: وتقدير الكلام في الآية: (
إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا
خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك ) قالوا: ومن ذلك قول
الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
أي: وإلا فاعلموا أنا بغاة ما بقينا في شقاق، وأنتم كذلك.
وعلى هذا، فإن ( الصابئون ) في الآية على نيَّة التأخير بعد خبر { إنَّ } وهو مبتدأ لخبر محذوف تقدير الكلام: ( والصابئون كذلك ). وعلى هذا قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيَّار بها لغريب
أي: فإني بها لغريب، وقيَّار كذلك .
وقال بعض أهل العلم في توجيه الآية: إن خبر { إن } محذوف، دلَّ عليه قوله سبحانه: { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قالوا: وجملة { والذين هادوا } معطوفة على جملة { إن الذين آمنوا } ومحلها الرفع؛ لأنها جملة ابتدائية، وما عطف عليها كذلك، وجملة { والصابئون }
من المبتدأ والخبر المحذوف، معطوفة على الجملة المرفوعة قبلها؛ فالعطف هنا
عطف جُمل على جُمل، وهي مرفوعة، فلأجل هذا جاء قوله تعالى: { والصابئون } مرفوعًا، عطفًا على ما قبله من جُمل مرفوعة .
وثمة من يرى من العلماء أن { إنَّ } في الآية بمعنى ( نعم ) كقول الشاعر:
ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت: إنَّه
قال الأخفش: ( إنه ) بمعنى ( نعم ) والهاء أدخلت للسكت. وعلى هذا القول، فـ { الصابئون }
في الآية رُفع على الابتداء، وحُذف الخبر لدلالة الثاني عليه؛ والعطف يكون
على هذا التقدير بعد تمام الكلام، وانقضاء الاسم والخبر .
والحق،
فإن اللغة العربية تسع كل ما قيل في توجيه الرفع في هذه الآية، ولا يخفى
ذلك على كل من كان ملمًّا بعلوم العربية وفقهها. وإذا كان الأمر على ما
ذكرنا فلا يعوَّل على ما قيل من شبهة حول هذه الآية الكريمة، إن يقولون إلا
ظنًا، والحق أحق أن يتَّبع لو كانوا يعلمون