انتفاضة عقل
مرام البار
(مع الأسف فإننا وبعد قرون طويلة من انتسابنا لهذا الدين، علينا أن نبدأ الآن معرفته لا العمل به)!!.. ما إن أتم حميد قراءة العبارة حتى سقط الكتاب من بين يديه واتسعت عيناه في ذهول.. ظل واجما لبرهة بلا حراك.. وغرق عقله في غيبوبة الفكر بعدما استيقظ الحزن بقلبه من جديد.. لقد أحسّ بالمرارة تعتصر أعماقه، فالحقيقة موجعة جدا وقاسية..
لطالما تألم من ابتعاد الناس عن جوهر الدين وتمسكهم بالقشور.. ولطالما اندهش من تحوّل العقل الاستكشافي الناقد للمسلم، إلى عقل تسليمي يحفظ النصوص ويمجّدها دون أن يتساءل أو ينتقد أو يضيف إليها شيئا، رغم أن القرآن الكريم قد فتح باب ثقافة السؤال على مصراعيه، وتعمّد في الكثير من آياته إلى إثارة التساؤلات، وتحفيز الفضول الفكري، واستفزاز العقل وحمله على التفكر والشك وإعادة النظر والسير في الآفاق بحثا عن الحقيقة: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)؟.. (أولم يتفكروا في أنفسهم)؟.. (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)؟.. (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقت)؟.. (وإلى السماء كيف رُفِعت)؟.. (وإلى الجبال كيف نُصِبت)؟.. (وإلى الأرض كيف سُطِحت)؟.. (أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون)؟.. (أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون)؟.. (أفرأيتم الماء الذي تشربون، أأنتم أنزلتموه من المُزْنِ أم نحن المُنزِلون)؟.. (أفرأيتم النار التي تورون، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المُنْشِئون)؟..
تدفقت آيات الحث على التفكر والتأمل تباعا في فؤاده.. تنهد بحسرة.. لا يزال حميد يذكر تلك الليلة التي شوّه التعصب فيها سلوك رفاقه ممّن لازالوا يفكرون بطريقة القرون الوسطى!.. إنهم لا يطيقون الاستماع لأي طرح جديد.. قد منحوا عقولهم إجازة مفتوحة فلا تتفكر ولا تتدبّر، بل تسعى لبرمجة العصر وفقا لاجتهادات الفقهاء القديمة وكأنها تنزيل من عند الله، وهو الأمر الذي يرفضه حميد.. إنه يرفض الانقفاص وسير القهقرى وتجميد قواه العقلية.. ولا يسمح للآخرين بمصادرة حريته في التفكير لمجرد أنه لم يرى الكون بأعينهم..
مضى شهر كامل على تلك الليلة.. بسببها.. تمزقت عرى الصداقة بينه وبين رفاقه.. وتوطدت عرى الصداقة ما بين ذاته وبينه.. فالخلوة التي فرضتها الغربة على حميد.. وأيضا ردود فعل رفاقه في ذاك المساء بما خلّفته له من حيرة ودهشة.. كل هذه الأسباب قد قرّبت حميد من فؤاده.. سافر إلى داخله.. هاجر إلى أعماقه.. صار كالجذور الضاربة في الأعماق.. تحتّم على نفسها التنسك في ظلمة التراب.. كيْما تنهض بأفنانها وأزهارها وأثمارها إلى عالم النور الجميل والهواء الطلق.. وكمثلها نهض حميد وانتفض..
وقف حميد أمام نفسه في حضرة الفكر.. فاستضاء وجهه حين هتف به صوت داخلي أن "انهض".. كان قرارا عميقا يتشكل في أحشائه.. قرار نور.. قرار حرية.. قرار نهضة.. قرار سيْر في الأنفس والآفاق.. أن يسعى جاهدا لتنقية الدين مما علق به عبر القرون من جراثيم الخرافة وأمراض الجهل.. أن يكرّس ثقافته وموسوعيته العميقة في تصحيح المفاهيم الخاطئة.. أن لا يبالي بما يناله من هجوم وتهميش وإلغاء وإقصاء وعِداء كما فعل رفاقه في تلك السهرة القاسية..
يااه.. حتى هذه اللحظة يجهل حميد سرّ مخاصمة رفاقه.. لماذا غضبوا منه وعدّوه فاسدا؟!.. ألأنه يحمل رؤية جديدة لم يألفوها وهم الذين اعتادوا على الترجمة الحرفية لكل ما يدوّنه الأوّلون؟!.. ولكن ما هذا الانغلاق والصرامة العقلية؟!.. وكيف يجري كل هذا الجهل باسم الدين؟!.. إن حميد لا يعتقد بأن الدين قد جاء لتحقيق هدف أجلّ من تحقيق وحدة الأسرة الإنسانية.. ما جاء إلا ليوحّد الشعوب والقبائل والأمم المتفرقة.. فكيف صيّره أتباعه وسيلة للفرقة والمشاحنة والضغينة؟!.. ولماذا هم يرفضون التفكير مع سبق الإصرار؟!..
المدهش أنه لم يطلب منهم الأخذ برأيه.. إنما دعاهم فقط إلى التفكر والتأمل وإعادة النظر وإحياء عضو أهملوه كثيرا واسمه "العقل".. دعاهم لمحاولة الفهم.. فجوهر الدين أمر، وفهمه ومعرفته أمر آخر.. والإشكالية في رأي حميد تقع دائما على الفهم.. وبإصلاح الفهم ستدرك الأمة جوهر الدين وحقيقته..
"قوانين الطبيعة ثابتة لا تتغير أليس كذلك؟.. لكن علم الطبيعة هو الذي يتطور ويتكامل.. وكذلك الدين كالطبيعة، جوهره ثابت لا يتغير.. في حين معرفتنا نحن للطبيعة وللدين هي التي تتغير وتتكامل.. لذا ينبغي على إنسان العصر الحديث أن يفهم معنى قوله تعالى: (خلق الإنسان من علق) أفضل مما يفهمه إنسان القرن الثاني والثالث، فأين إنسان ذلك الوقت من إنسان اليوم؟.."
قالها حميد لرفاقه ساعة ثاروا عليه.. قالها بنبرته الهادئة الخالية من التشنج، ونظرته العميقة الممتلئة بالنور ثم صمت لبرهة.. واسترسل بعدها متسائلا: "فعلام غضبتم مني حين سقت لكم الأسباب التي قادتني لفهم كلمة (واضربوهن) في سورة النساء فهما آخر مختلف رافضا الاقتناع بتفسيرات لم تتم وفقا لقاعدة عقلانية، إنما بحسب مستوى فهم المفسّر والبيئة التي نشأ فيها، الأمر الذي اضطر البعض لتأليف حكاية ساذجة كحكاية الضرب بالسواك والتي لا يقبلها منطق ولا عقل ناهيك عن أن تكون وسيلة فعالة للعلاج أو التأديب؟!.."
ياللضجيج الذي أحدثته تساؤلات حميد في نفوس رفاقه!.. إنه يمتلك روح التساؤل التي تخترق الأشياء.. وله روح النقد التي تتجاوز المألوف.. في حين يعدّ رفاقه نقد جهود السابقين نقدا لثوابت الدين ومسلماته.. فهم لا يملكون الجرأة اللازمة للتفكير بحرية دون استئذان من الآباء ودون تقليد لهم ودون ترجمة ما يدور في عقولهم ترجمة حرفية.. إنهم مؤمنون بالإرث.. ينطبق عليهم قوله تعالى على لسان المشركين بالإرث: (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا).. (هذا ما وجدنا عليه آباءنا).. هي الظاهرة الآبائية إذا.. هذه الظاهرة هي داؤنا وسرّ تخلفنا عن ركب الأمم المتقدمة، وما لم نكنس من أدمغتنا ما علق بها من غبار العلوم التلقينية غير السليمة، فستظل أحوال عالمنا الإسلامي متدهورة مقلوبة..
ذاك هو منطق حميد الذي بسببه تعرض للهجوم والقطيعة.. لم يُعِر أحدهم حججه العقلانية أدنى اهتمام.. كانوا جميعهم يتفقون مع ركام مدونات المفسرين على أن تأديب الزوجة بالضرب غير المبرح هو امتثال من الزوج للأمر الإلهي الذي يعقب الوعظ والهجر في المضجع.. وهم يرون في تساؤلات حميد معول هدم لمعلوماتهم القديمة التي توارثوها جيلا بعد جيل دون محاولة البحث ودراسة الآية بمنهج علمي دقيق.. لقد أمطرهم حميد بوابل من التساؤلات المشككة حول صحة تفسير الضرب في قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا): "لماذا نتعامل مع بعد واحد فقط في آيات القرآن بالرغم ممّا للكلمة من مرادفات ومعانٍ مختلفة؟.. أحقا المقصود بكلمة (واضربوهن) هو الإيلام البدني كما فسرها أكثر المفسرين؟.. أم أن معناها هو الإعراض عنهن والاعتزال وتركهن وتجاهلهن كما فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما حدث الخلاف الكبير بينه وبين زوجاته، ففارقهن واعتزلهن وترك لهن الحجرات وانفصل عنهن شهرا كاملا دون أن يلجأ لعلاج النشوز بالأذى الجسدي أو الإذلال النفسي؟.."
تساءل حميد، ثم أردف قائلا: "إن المتدبر في كلام الله تعالى يلحظ أن القرآن الكريم قد عبّر بكلمة "الجلد" لمّا قصد الأذى الجسدي بغية التأديب والعقاب.. بينما جاء استخدام لفظة "الضرب" في السياق القرآني بشكل عام للدلالة على العزل والفصل والمفارقة والبعد، بالإضافة لمعانٍ أخرى تعتمد على السياق.. ولنتفكر معا في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا).. (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) أليس الضرب في الأرض هو الابتعاد والمفارقة والسفر والرحيل؟..
(فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) وهل المقصود بالضرب هنا المعنى المتعارف عليه من أذى جسدي أم تراه المقصود فصل وعزل الأصوات عن الأذن؟..
(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) ألا يعني الضرب في هذه الآية منع وحجب الصدر عن الأنظار؟..
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ) أوَليس المقصود عزلهم عن بعض؟..
(كذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) بمعنى يميّز يفصل.. (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) استخلصه جليّا وفصله..
(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) وضرب الذكر عنهم تعني إبعاده وإعراضه..
(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) بمعنى فصل الرقاب عن الأجساد..
(أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) شق الطريق بفصل الماء عن اليابسة..
عجبي!.. كيف فات المفسّرين أن الكلمة في اللغة ليست ذات دلالة محدودة، بل هي غزيرة تحمل معانٍ متعددة ودلالات جمّة؟.. ألا تزخر معاجمنا اللغوية وقواميسها بمعانٍ مختلفة للكلمة الواحدة؟.. لماذا إذا تم حصر معنى الضرب بالآية في مفهوم واحد ضيق لا يتماشى مع آيات القرآن التي دعت للحسنى في معاملة الزوجة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).. (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).. (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ).. كما أنه لا يتماشى مع سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الذي ما ضرب نسائه يوما وما أهانهن قط وهو القائل: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).. (رفقا بالقوارير).. (النساء شقائق الرجال)؟!.."
كل هذه التساؤلات التي طرحها حميد قد أشعلت فتيل غضب من حوله.. تطاولوا عليه.. مارسوا معه كل أساليب الإقصاء والتهميش ومحاكمة نواياه الغيبية.. سبّبوا له الألم العميق.. ومن براكين الألم تفجّر نبع من الفكر والعطاء والقدرة الكامنة في أعماقه.. صقلته الوحدة والحيرة والدهشة والحزن.. فجّرت طاقاته الفكرية والأدبية.. انكبّ على البحث والكتابة.. لم تنقضِ بضعة أسابيع إلا وقد تحولت مقالاته وأشعاره في الصحف إلى فلذات حية وصلوات زاخرة بالفكر والشعور والعلم والنور..
وتبقى تفاصيل تلك الليلة محفورة في ذاكرته.. لم تكن كأيّ ليلة.. هي ليلة الحيرة الإنسانية.. هي ليلة التساؤلات الجريئة والنقد البناء والبحث عن المعرفة.. هي ليلة.. انتفض العقل فيها.. وفي انتفاضة عقل اللبيب انتفاضة عقول ونهضة مجتمع..
موضوع: انتفاضة عقل//اعجبني 
8/3/2011, 17:59
