المندسين مسلسل في حلقات
الحلقة رقم صفر
هكذا قرر كاتب المسلسل ، ولماذا الحلقة رقم صفر !!!؟.
قال : الصفر يمثل الرقم المحايد ، فلا هو سالب ولا موجب ، هو العتبة ، او اللحظة او الساعة او اليوم الماثل امامك بأحداثه ، هناك ما قبله من ايام وسنوات ، وما بعده ايام وسنوات قادمة .
ذكرني كلامه هذا بمسرحية كان قد كتبها وهو طالب بالمرحلة الثانوية كانت بعنوان ( الأرض ما زالت تدور) وكان يردد القول : ما بعد اليوم ليس كاليوم .
سألته عن مضمون الحلقة رقم صفر .
قال : اليوم بعد صلاة الجمعة اخذ حفيدي بالبكاء وكان يعرك عيونه ، للحظة الأولى لم ادرك ان رائحة الغاز المسيل للدموع بدات تتصاعد ، واعتقدت ان هناك من نسي طبخة على النار ، ولكني تأكدت ان بالخارج مظاهرة تقذف بالغاز المسيل للدموع ، لم اتردد وخرجت للشارع الرئيسي ، كان المصلين الذين خرجوا لتوهم من صلاة الجمعة يتراكضون باتجاه بيوتهم ، ورجال امن بلباس لم نعهده لهم من قبل يطاردون شباب تهتف الله اكبر ووابل من طلقات غاز وربما رصاص مطاطي .
هرب المتطاهرون إلى داخل الأزقة الضيقة ، ومن الحكمة ان يتحاشى رجال السلطة ملاحقتهم داخل الحارات الشعبية ، صاح بنا احد رجال الأمن (على بيوتكم) .
انتظرت قليلا حتى ابتعد رجال الأمن عن مدخل الزقاق ، وبدافع الفضول قررت ان ادخل وارى المندسين عن قرب ، وقد تتاح لى فرصة الحوار مع مندس .
كانوا شباب صغار اكبرهم لا يتجاوز الثامنة عشرة ، لا يبدوا ان لهم معرفة بالسياسة ، فقط وجدوا ان تطويق المسجد بالأمن ومن يطلق عليهم لقب الشبيحة يشكل استفزاز لمشاعر الشعب ، وما فعلوه هو رد على هذا التحرش وان جدار الخوف اكله الصدأ.
كان لدى هؤلاء الفتية ذكاء فطري ، ولكوني لست معروفا من اهل هذا الزقاق فقد كانوا على حذر مني ، كان يقف كل ثلاثة او اربعة مع بعض يتضاحكون ، فسألت احدهم : شو في يا ابني : ضحك وقال : في مندسين والأمن والشبيحة عندهم قنابل غاز لا يتاثر بها سوى المندسين .
قال اخر : انا كدت اختنق وقد اكتشفت نفسي ولأول مرة في حياتي بفضل الشبيحة انني مندس ، وافكر ان اسلم نفسي للنظام فربما اكتشف اشياء عن نفسي ، انا شخصيا لا اعرفها حتى الآن .
بهذه الروح المرحة والساخرة كان حال ما قيل عنهم في الإعلام الرسمي انهم مندسين .
ضحك صديقي كاتب الحلقات وقال: لم ادري انني بحكم المندسين ، والأدهى حفيدي الذي بعمر السنتين هو مندس رغم انه لم يشارك لا بمظاهرة ولم يخرج من البيت ، لكن قنابل الغاز هي التي جاءت إليه في عقر الدار وكشفت حقيقته.
قلت: هل تريد ان تنفي وجود مندسين ؟.
قال: قال لو لم يكن هناك وهنا مندسين لما ضاعت الأراضي العربية ، ولما بقي حراس التجزأة يتربعون على عروشهم وكراسيهم ، منذ الأستقلال الشكلي وحتى اليوم.
قلت : هذا موضوع اخر وطويل ، لنبقى في لحظة او حلقة الصفر ، فالحلقات التمثيلية ما قبل الصفر ، قد نعود لها لاحقا ، وقد تختصر في حلقة واحدة .
قال مبتسما وساخرا :هي الف ليلة والحلقة الصفر ليلة .
تابع القول :عدت للشارع الرئيسي ، لأجد الشارع الذي كان يعج بالسيارات قد اصبح خالي تماما ، ادركت ان شيئا ما يحدث في الحي الجنوبي ، كذلك فضولي دفعني لأتابع رحلة البحث عن المندسين داخل المظاهرات السلمية كما يقول الإعلام الرسمي .
كان عدد كبير من رجال الأمن السري الذين يرتدون ملابس عسكرية لم نعدهم يلبسونها يتوزعون في زوايا الشارع غير مكترثين بهتافات تسمع من بعيد ، استعجلت السير متوجها نحو المظاهرة التي لم تعترض من احد ، لم تكن سلمية كان افرادها يحملون العصي والهراوات منها المعدنية المدببة بالمسامير لو ضرب بطل مصارعة على راسه لقتل في لحظتها، نعم هم المندسون وما كان قرب حارتنا كان مزاح اطفال .
من منطق انني اقف في اللحظة الصفر المحايدة ، كان لا بد من التعرف وبدقة عن ماهية هؤلاء المندسين ، كانت هتافاتهم تدل انهم من المدافعين عن النظام ، وكانت واحدة من هتافاتهم ، حارة حارة بيت بيت .
ملاحظة غير معهودة ولوحظت في اكثر من يوم جمعة ، ملامح غريبة شعر راس حليق تماما ولحية ذات شكل غير مالوف تمعن النظر تجاه النوافذ والأبنية المحيطة .
هؤلاء المندسون الموالين للسلطة اكثر خطرا عليها وعلى المعارضة وعلى الشعب كله ، إن اسلوبهم هذا سوف يلغي الخلاف السياسي العقائدي ، وامكانية الإصلاح ليحل محله الثار الشخصي والفئوي ، الذي بدوره يستدرج الكل إلى فوضى تهدف إلى التقسيم العنصري والمستحيل عمليا في النهاية،لكن الدم والإقتصاد سوف يذهب هباءا ومئة سنة إلى الوراء.
اليوم نحن في الحلقة الصفر ، فالمندسون الذين اخترقوا القوى الوطنية والقومية منذ بداية تشكيلها في اربعينات القرن الماضي تطل برأسها اليوم .
قلت : وماذا عن الحلقة الأولى ؟.
قال :سوف انتظر واكتب بالكلمة الصورة الحقيقية على الأرض .
قلت : بحياد ؟.
قال : الحياد فقط في الحلقة الصفر.
لأول مرة اشعر بالألم يعتصر نفسي ، فالنفق مظلم والأفاعي والعقارب خطيرة ، والله لا يساعد قوم لم يساعدوا انفسهم