الأنماط العمرانية في العمارة الصحراوية:
1-2- الأنماط العمرانية في العمارة الصحراوية:
1-2-1- الأنماط والمعالجات التخطيطية للعمارة التقليدية الصحراوية:
إن الأنماط المعمارية على مر العصور كانت دائما انعكاساً صادقاً للبيئة الحضارية التي كانت تسود كل مرحلة من المراحل التاريخية المتلاحقة، ومن قديم الزمان أقيمت مدن على أطراف الصحراء حيث ساعدت البيئة الحارة بظروفها الطبيعية والاجتماعية على خلق نمط معين متلائم معها، فقد ساعدت البيئة الحارة على توجيه الإنسان إلى الداخل سواء كان للحي أو المسكن أو في المدينة ككل حتى يتوفر عامل الحماية من الظروف المناخية.
ولقد ظهرت التشكيلات المعمارية على مستوى التخطيط بصوره عضوية وتلقائية دون الارتباط المسبق باعتبارات تشكيلية أو معمارية معينة، وبذلك أصبحت العمارة التقليدية تعبر بصدق عن الوظيفة والبيئة الطبيعية والثقافية والاجتماعية السائدة[ ]، وقد استطاعت هذه العمارة التوصل إلى حلول معمارية سليمة كفيلة بتحقيق الحماية من العوامل الجوية شديدة القسوة، فظهرت المباني الملتحمة أو شبه الملتحمة في نسيج عشوائي وتلتف حول الفراغات الداخلية لأفنيتها مما يوفر أكبر مساحة مظللة[ ]، ويعتبر تكامل الفراغات وتداخلها من أهم القيم التخطيطية والتصميمية للعمارة التقليدية وخاصة في المباني السكنية[ ]، ويعمل هذا التخطيط العضوي على الحد من تعرض مكوناته المختلفة كالمسكن والشوارع والممرات إلى قدر كبير من المؤثرات البيئية الخارجية كأشعة الشمس المباشرة أو الحرارة المنقولة بالإشعاع أو الأتربة المحمولة في الهواء، ولذلك يكون الأنسب في البيئة ذات المناخ الحار الجاف أو الصحراوي بشكل عام هو اللجوء إلى الأنماط التخطيطية المدمجة أوالنسيج المتضامCompact وذلك بهدف التقليل بقدر الإمكان من التعرض للظروف المناخية الخارجية.
1-2-1-1- التخطيط المدمج أو المتضام:
يقصد بإتباع الحل المتضام ففي تجميع المدينة هو تقارب مباني المدينة بعضها من بعض حيث تتكتل وتتراص في صفوف متلاصقة، في البيئة الصحراوية الجافة يكون التفاوت كبير بين درجة الحرارة صيفاً وشتاءً وكذلك بين الليل والنهار، مما يوجب معه استخدام التخطيط المتضام المتلاحم كما هو موضح بالشكل(1-21)، لتوفير أكبر قدر من الظلال التي تسقطها المباني على بعضها البعض والناتجة عن اختلاف الارتفاعات والبروزات في الحوائط الخارجية كما هو موضح بالشكل(1-22)، بحيث لا يتعرض لأشعة الشمس سوى أقل مساحة من الواجهات والأسطح، ومن ثم تكون الطاقة النافذة أو المتسربة إلى المباني في أضيق الحدود.
ومن سمات هذا التخطيط أن عروض الشوارع ضيقة وملتوية لتقليل المساحات المعرضة للشمس مما يعمل على الاستقرار الحراري والحفاظ على ركود الهواء البارد أسفل الشوارع[ ]، مع مراعاة أن تكون متعامدة على اتجاه الرياح السائدة بسبب احتمال هبوب الرياح المحملة بالرمال والأتربة، التي تؤدي إلى رفع درجة الحرارة داخل المباني[ ]، أما الشوارع الضيقة (الممرات) داخل التجمعات السكنية ذات التخطيط الغير متضام فإنها تظل قاصرة في الاستقرار الحراري حيث ترتفع درجة حرارة الهواء في هذه الشوارع، وهذا راجع إلى سقوط أشعة الشمس المباشرة عليها وسخونة الأرض وانعكاس الإشعاع الشمسي من الحوائط المجاورة لها وعدم تهويتها بالشكل الجيد أو توجيهها في اتجاه الهواء السائدة وهذه الأسباب مجتمعة تجعل من هذه الشوارع الضيقة مخزن للحرارة، مما ينقل هذه الحرارة للقشرة الخارجية للمبنى عن طريق خاصية التوصيل الحراري، أما في الشوارع المتسعة والتي تعد من العناصر السلبية كونها تزيد من الكسب الحراري نجد أن اتساع هذه الشوارع وتحرك الهواء فيها بشكل سريع مع تشجيرها يمكن من خلاله التقليل من الكسب الحراري.
أ- الفراغات الخارجية:
تؤثر البيئة الصحراوية على الفراغات الخارجية فنجدها غير متسعة، لأن أشعة الشمس القوية تمنع استغلال مثل هذه الفراغات الخارجية المكشوفة في ممارسة الأنشطة المختلفة، إلا إذا ظللت كلها أو أجزاء منها بواسطة الأبنية أو صفوف الأشجار، واستخدام النباتات المتسلقة لتغطية البرجولات وأماكن انتظار السيارات، ويقتصر وجود الفراغات الأكبر نسبياً على مناطق الفصل بين الأحياء ومناطق المراكز الرئيسية مع استخدام وسائل تظليل مناسبة لهذه الفراغات[1].
ولقد أجريت بعض الدراسات لمساحات الفراغات الخارجية المكشوفة لبعض المدن القديمة فوجد أن نسبة الفراغات الخارجية في المدينة التراثية حوالي11%، في حين أنها في المدينة الاغريقية27%، وفي المدينة الرومانية 31%[ ]، وإن هذه المقارنة توضح ملاءمة نسبة الفراغات الخارجية بالمدن العربية التراثية لطبيعة المناخ الحار، إلى جانب ملاءمتها من جانب آخر للمقياس الإنساني ووسائل النقل البسيطة في تلك العصور.
ب- الشوارع وممرات المشاة المتعرجة:
أن اللجوء لا تباع الحل المتضام في النسيج العمراني للمدينة التقليدية أدى بالتبعية بأن تكون شوارع المدينة ضيقة، حيث يؤدي ذلك إلى تعرضها لأقل قدر ممكن من الإشعاع الشمسي المباشر، إلى جانب أن ضيق الشوارع كان يتناسب مع وسائل الانتقال في ذلك الوقت (الدواب والعربات التي تجرها الدواب) والتي لم تكن تتطلب شوارع ذات عروض أكبر[ ]، وهذا لا يعني أن بعض المدن التقليدية لم تعرف شوارع عريضة، فيروى أن الشارع الرئيسي في البصرة يصل عرضه حوالي اثنين وثلاثين متراً والشوارع الفرعية أثنى عشر متراً، أما الطرق الداخلية فأربعة أمتار.
ولقد كان لكل من الشوارع والأزقة والممرات في المدينة التقليدية وظيفة وغرض خاصان فالشارع والطريق وصل عرضه إلى حوالي 4م، أما الحارات فتتراوح عرضها بين 2-3م، أما الأزقة فتتراوح عرضها بين 1.5-2م ولا توجد عليه أي أنشطة تجارية، وقد كان لارتفاع المباني على جانب الشارع أثره الواضح في تحقيق نسبة ظل معقولة في هذه الشوارع، فقد كانت نسبة ارتفاع المباني إلى عرض الشارع في بعض المدن 2:1 وأحيانا3:1 أو4:1، وقد زاد من كمية الظلال تلك الرواشن والأجنحة التي كانت تبرز إلى عرض الشارع في الطوابق العليا من المباني[ ].
وبالنسبة توجيه الممرات والشوارع في المدن القديمة فإن غالبيتها تأخذ الاتجاه الشمالي الجنوبي؛ لأن ذلك يساعد على عدم تعرض الطرق وواجهات البيوت المطلة عليها فترة طويلة للشمس، وحتى تكون عمودية مع حركة الشمس الظاهرية وهذا ما يجعل الشوارع تكتسب ظلال طوال النهار، بالإضافة إلى اكتسابه الرياح الشمالية التي تساعد على استمرار برودتها أطول فترة ممكنه لوجود نسبة التظليل العالية في هذه الشوارع، ولكي تكون ممرات المشاة متوافقة مع البيئة الصحراوية يجب أن تكون اقصر ما يمكن لكي تحقق مسافة السير القصوى للفرد ذهاباً وعودة في أثناء النهار، وتكون ضيقة ما أمكن ومتعرجة في تكوين متضام، ويكون المقياس الإنساني هو الحاكم، لذلك نجد أن الكتلة البنائية هي المسيطرة على شبكة الطرق وتتكون من مجموعة من القطاعات السكنية، وكل قطاع يتكون من مجموعة من المساكن المتراكبة[ ].
ج- تسقيف الشوارع والممرات وبروز الواجهات:
تم إتباع بعض الحلول في تظليل الممرات بواسطة البواكي أو الأشجار أو الأقمشة لحماية المارة من الشمس، ولقد اختلفت أساليب تغطية الممرات والشوارع باختلاف المناخ ومواد البناء المتوفرة، فبينما كانت السقوف مسطحة في القاهرة وجدت على هيئة أقبية من الآجر وعرشات العنب والخشب في الأندلس، واستخدمت الأقبية الحجرية في مدن أخري كحلب وغيرها، وكان التسقيف للحماية من العوامل الجوية كالشمس والمطر والرياح، كما هو موضح في الشكل(1-23).
أما في الشوارع والممرات الغير مسقوفة فقد لجاء الإنسان في هذه المدن إلى معالجة معمارية أخرى حتى يتم إلقاء المزيد من الظلال على أرضيات الشوارع وواجهات المبنى أيضا، فابتكر فكرة عمل بروزات بواجهات المباني المطلة عليها عن طريق البروزات المتراكبة[ ]، وهذه البروزات المتراكبة تقوم بإلقاء الظلال على واجهات المبنى نفسه وعلى أرضية الشارع التي تطل عليه، كما أنه في حالة وجود بعض العناصر المعمارية البارزة كالمشربيات مثلا فسيتم إلقاء المزيد من الظلال.
وإذا نظرنا إلى القطاع العرضي للشارع نجد أن البروزات الخارجية للمباني على جانبي الشارع تزداد تدريجيا من الأدوار السفلية إلى الأدوار العليا وهذا يزيد من عرض القطاع عند مستوى الطريق عن العرض العلوي للقطاع مما يساعد على حركة الهواء وتجدده من أسفل إلى أعلى[ ]، وهذا التشكيل المميز لخط القطاع الخارجي يظهر واضحا في مصر، إلا انه لا يظهر في مناطق أخرى كإيران أو المنطقة الوسطي بالسعودية أو في عمارة اليمن،