الرَّجُل حبة القمح
تأخذ الأمراض النفسية مناحي لا حصر لها. ولا يخلو أحد على وجه البسيطة من مرضٍ ما، ذلك أنه دائماً بالإمكان خلق أنماط فكرية، وإطلاقها في العِلم والتقاليد والنكت واللغة، وعلى الفور سيمكن لكل منا أن يبدأ في تصنيف سلوكيات الآخرين.
إن ذلك شيء جميل بالفعل، إذ إن جزءاً كبيراً من خبرة العلوم بشتى أنواعها، أصبح في متناول خبرات البشر، كلٌ حسب نسبة إدارته لآلية ما يملكه من منظومات لقوته. فالمتسول مثلاً؛ قادر على تصنيف قلوب الناس، وأسلحته خفية، يُطلِقها بطرق مُلَطَّفة، وفي بعض الحالات يُصبح يسارياً، عندما يعترض بعبارة أو إشارة على قلة المُعْطَى. أما الحكومات فقدرتها خيالية، بما تملك من سيطرة على إدارة قوتها بقوة تَمَلُّكها للبنى التحتية للمجتمع، وحتى تسيير شؤون البنى الفوقية، ضمن خططها الاقتصادية على الأقل، والإعلامية على الأقل، والتعليمية على الأقل، وهكذا.. إلخ إلخ.
علاقة تلك المقارنات والخلطات السابقة بين المرض النفسي، وحلاوة قدرة الجميع على أن يكون مريضاً ومُصنفاً للمرض ومقترحاً للعلاج، تذهب بنا إلى ساحة الثورات العربية الحديثة، بكل نماذجها المتعددة سُلطوياً، ونموذجها الواحد المتشابه شعبياً. وليس الهدف هنا تحليل وتبكيت، ليس الهدف هنا إلا سرد الحكايا والأساطير؛ مؤطرتين بلا حول ولا قوة. فهذا ما يُمِّكن اللغة الحاضرة من أن تصبح تاريخاً بعد سنين، وهو تمكين استطرادي طبيعي، ليس لأحد تدخل نظري فيه، فهذه سُنة الحياة، وهذا حظ تلك الفترة التي نعيشها.
عند هنا تحديداً، أطلق العنان للضحك، وأنا أرى “رجلاً” يجري من “ديك”. أتخيل ذلك الفارق وتمعن نفسي إمعاناً في فرحٍ زائد، ولولا أنها من الأصل حكاية شعبية، حسب ما حكاها لي صديق، لوقف الأمر للأبد خيالاً وواقعاً، عند استمرار ركض الرجل هرباً من الديك، كما في “أسطورة سيزيف” الذي عاقبته الألهة اليونانية على كشفه سراً إلهياً للبشر، فحكمت عليه بحمل صخرة وإيصالها إلى أعلى الجبل، وتقع الصخرة فيعود نازلاً لتكرار ما سبق، وهكذا أبداً إلى يومنا هذا.
تصور الرجل؛ والذي تم تصنيفه على أنه مريض نفسياً، إنه حبة قمح، وكلما يرى ديكاً يفر فراراً متلعثماً، خوفاً من أن يأكله الديك. حاول أهله إقناعه بأنه من البشر، وأنك فلان الفلاني، وهذه عائلتك وجيرانك، لكن ظهور ديك يثبت فشل استجابته. يقولون له كنت في طفولتك كذا، هذه صورك، ويحضرون له المرآة ليرى نفسه فيها. بالطبع وبافتراض ما، طالما أنه بالنسبة لنفسه حبة قمح، فلن يرى شخصه في المرآة كما يرونها هم في المرآة والواقع أيضاً.
أخيراً، ذهبوا به إلى طبيب نفسي، وبعد صد ورد، ومحاولات مُضنية من الطبيب، خصوصاً مع رفض “الرجل/ حبة القمح” تعاطي أي دواء، لأنه كيف لحبة قمح أن يكون لها فم، وإن كان لها فم، كيف يصح أن تبتلع أقراصاً بهذا الحجم. إذن، بعد صد ورد، اقتنع بأنه فعلاً إنساناً، وليس حبة قمح.
عدة أيام رجع الرجل قائلاً للطبيب: اقتنعت أنا بأنني إنسان، وليس غير ذلك، لكن مَن سيقنع الديك بأنني لست حبة قمح؟؟