الحمد لله ذي الفضل والإنعام، أوجب الصيام على أمة الإسلام، وجعله أحد أركان الدين العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام وأطاع أمر ربه واستقام. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروه على بلوغ شهر رمضان، واسألوه التوفيق والإعانة على اغتنام أوقاته بالطاعة، وأن لا يجعلكم فيه من أهل التفريط والإطاعة، فإنه إنما يفرح بطول العمر لأجل إدراك مواسم الخيرات، والإكثار من الطاعات.
وفي الحديث: "خيركم من طال عمره، وحسن عمله"، ولا يفرح بطول العمر من أجل العيش في الدنيا فقط؛ لأن العيش في الدنيا في غير الطاعة ينتهي سريعا ويعقب حسرة وندامة يوم القيامة.
وأما العيش في الدنيا في الطاعة فإنه يبقى أثره ويمتد خيره إلى ما لا نهاية؛ لأنه يتصل بعيش الآخرة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
فحياة المؤمن ممتدة متواصلة بالخير والسرور في دنياه وفي قبره ويوم نشوره؛ ففي الحياة الدنيا يتلذذ بالطاعة ويطمئن قلبه بذكر الله؛ فيعيش فيها منشرح الصدر قرير العين، وفي قبره يفتح له باب إلى الجنة؛ فيأتيه من طيبها ونعيمها، ويقال له: نم نومة العروس لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وفي بعثه يبعث على أحسن حال؛ فيحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسرورا ويدخل الجنة دار النعيم خالداً مخلداً فيها لا يمسه فيها نصب، ولا يخشى موتاً ولا هماً ولا مرضا: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) [الحجر: 48].
وأما الكافر؛ فإنه وإن حيزت له الدنيا بحذافيرها؛ فإنه يعيش فيها مهموماً مذموماً، وتزول عنه سريعاً، ثم يموت ويعذب في قبره، ثم يبعث إلى النار وبئس القرار، هكذا عذاب متواصل، كما قال تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [الرعد: 34].
عباد الله، وإن من أعظم ما يمر في عمر المؤمن إدراك مواسم الخير، التي من أعظمها شهر رمضان المبارك، فإنه أعظم كسب في حياة المؤمن، وفي حديث الثلاثة الذين استشهد منهم اثنان وبقي الثالث بعدهما، ومات على فراشه، فرئي سابقاً لهما، فتعجب الناس من ذلك؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أليس عاش بعدهما وصلى كذا وكذا وأدرك شهر رمضان فصامه، والذي نفسي بيده أن بينهما كما بين السماء والأرض"؛ فأحمدوا الله – أيها المسلمون- على بلوغ هذا الشهر، وأكثروا فيه من فعل الطاعات واكتساب الحسنات.
واعلموا، أن أعظم عمل شرعه الله في هذا الشهر بعد الصلوات المفروضة هو الصيام؛ فقد جعل الله صوم هذا الشهر أحد أركان الإسلام؛ فمن جحده فهو كافر مرتد عن دين الإسلام، ومن أقر بوجوبه ولم يصمه تكاسلاً؛ فهو مستحق لأعظم الوعيد، ويجب عليه التوبة إلى الله وقضاء ما أفطر منه، ومن علم بفطره من المسلمين وجب عليه أن يرفع عنه لولاة الأمور ليأدبوه ويلزموه بالصيام، ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم صحيح.
وأما الصغير الذي دون البلوغ فلا يجب عليه، ولكن يؤمر به إذا كان يطيقه ليعتاده ويتربى عليه، ويكون له نافلة ولوليه أجراً.
وأما المسافر والمريض؛ فيفطران ويقضيان من أيام أخر.
ومن زال عقله بجنون دائم أو كبر وهرم، فلا صوم عليه. وأما الكبير الذي يعقل ولكنه لا يستطيع الصيام لضعف بدنه وقواه؛ فإنه يجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينا، ومثله المريض الذي لا يستطيع الصوم، والمرض مستمر معه دائما؛ فإنه لا صوم عليه، ويطعم عن كل يوم مسكيناً.
عباد الله، والصوم: معناه الإمساك عن المفطرات بنية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
والمفطرات هي: الأكل والشرب؛ فمن أكل أو شرب متعمداً بطل صومه ويجب عليه التوبة إلى الله والإمساك بقية يومه ثم يقضي ما أفطره، ومن أكل أو شرب ناسياً فلا حرج عليه، وصومه صحيح.
ومثل الأكل والشرب في إفساد الصيام ما كان بمعناهما، مثل الإبر المغذية، والحبوب الدوائية، والإبر التي تحقن عن طريق الوريد، لأن هذه الأشياء تدخل في الجسم وتخالط الدم أو تغذي، وتفعل ما يفعل الطعام والشراب، ومثل الأكل والشرب أيضا: استعمال القطرة في العين أو الأنف أو الأذن؛ لأنها تتسرب إلى الحلق وتدخل الجوف؛ فمن استعمل القطرة متعمداً، ووجد طعمها في حلقه فإنه يفسد صومه.
فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"؛ فقد نهي عن المبالغة في استنشاق الصائم لئلا يصل الماء إلى حلقه، وذلك يدل على الإخلال بصيامه، ومثله القطرة؛ لأنها سائل وصل الحلق عمداً فتفسد الصوم.
ومن مفسدات الصوم: الجماع؛ فمن جامع في نهار رمضان فسد صومه، ويجب عليه أن يتوب إلى الله، ويمسك بقية يومه، ثم يقضي هذا اليوم الذي جامع فيه، وعليه مع القضاء الكفارة المغلظة، وهي إعتاق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا.
وعلى المسلم أن يتجنب كل الوسائل التي قد توقعه في هذا المحذور، من نظر بشهوة، أو تقبيل لزوجته بشهوة، أو لمس لها بشهوة.
ومن المفسدات للصوم: إنزال المني بدون جماع بسبب ما ذكرناه من نظر، أو تقبيل، أو لمس، أو استمناء باليد، وهو ما يسمى بالعادة السرية.
أما من احتلم وهو نائم في نهار رمضان؛ فأنزل، فإنه لا يؤثر على صيامه؛ لأنه بغير اختياره وإنما يجب عليه الاغتسال.
ومن مفسدات الصوم: استفراغ ما في المعدة عمداً، وهو التقيؤ، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من استقاء فليقض"، أما من غلبه القيء وخرج بدون اختياره؛ فصيامه صحيح.
ومن مفسدات الصوم: استخراج الدم الكثير من البدن بحجامة أو فصد أو سحب للدم، فإذا فعل ذلك فقد أفطر لصحة الحديث في أن الحجامة تفطر الصائم.
أما من انجرح ونزف منه دم كثير، أو خلع ضرساً؛ فخرج منه دم فلا حرج وعليه أن يتفل الدم من فمه.
ومن موانع صحة الصوم: الحيض والنفاس؛ فالحائض والنفساء تفطران مدة الحيض والنفاس وجوباً، ولا يجوز لهما الصيام ولا يصح منهما، وتقضيان ما أفطرتا فيهما من أيام أخر.
فاتقوا الله – عباد الله-، وحافظوا على صيامكم من المفسدات، وقد جعل الله لكم الليل مجالاً لتناول ما تحتاجون إليه أو تشتهونه مما أباح الله لكم. أما النهار فاحفظوه بالصيام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) إلى آخر الآية [البقرة: 187].
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه. شرع لنا الصيام والقيام لتنال منه الأجر والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. عليه وعلى آله وأصحابه أزكى الصلاة والسلام.
أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن هناك مفطرات معنوية إلى جانب المفطرات الحسية؛ فجيب عليكم معرفتها واجتنابها، وهي:
كل قول أو فعل محرم في غير الصيام؛ فإنه يتأكد تحريمه ويتضاعف إثمه في وقت الصيام، وذلك كالغيبة والنميمة، والشتم، والسباب، وقول الزور، والنظر إلى ما حرم الله النظر إليه من النساء، والصور الفاتنة، والأفلام الخليعة، والاستماع إلى ما حرم الله الاستمتاع إليه من الأغاني والمعازف والمزامير وسائر المعاصي؛ فإنها تؤثر على الصيام وتوجب الآثام؛ فليس الصيام مجرد ترك الطعام والشرب والجوع والعطش، ولكنه مع ذلك ترك كل ما حرم الله من الأقوال والأفعال المحرمة والمؤثمة، يصوم البطن عن الطعام والشراب والفرج عن الاستمتاع، والنظر عن المرائي المحرمة، واللسان عن الألفاظ القبيحة.
فترك الطعام والشراب لا يكفي مع عدم ترك هذه الأشياء، بل يصبح تعباً بلا فائدة، وعملا بلا أجر.
فاتقوا الله في صيامكم، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم...
( من كتاب الخطب المنبرية، لمعالي الشيخ الدكتور صالح الفوزان/ ج2)