{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}.
في هذه السورة يريد الله تعالى أن يبيِّن لنا بعض الآيات الكونية التي تدلُّ الإنسان على عظمة خالقه، وتعرِّفه بعظيم فضله وعنايته به، فلعلَّه يستيقظ من غفلته ويصحو من سكرته، فيرجع عن إعراضه وكفره ويثوب إلى رشده، ولذلك قال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}.
فهذه الآيات الخمس تلفت نظرك أيها الإنسان إلى ذلك النظام البديع الذي تنزل به الأمطار، وتتوفَّر لك بواسطته المياه في العيون والآبار. وقد ذكر لنا تعالى هذه الآيات على وجه الترتيب كما تقع وكما يراها الإنسان، فقال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً}.
(والعاديات): جمع عادية، مأخوذة من عَدَا، أي: ركض وجرى. والعاديات هنا: هي الرياح تجري بصورة مستمرة متنقِّلة في الطبقات الجوية حسبما تصرِّفها يد القدرة الإلهية من جهة إلى جهة أخرى ومن مكان إلى آخر.
والضبح: هو الصوت، يُقال: ضبحت الخيل في عدوها، أي: أسمعت من أفواهها صوتاً ليس بصهيل ولا حمحمة، وضبحت الأرنب، وضبح الثعلب، أي: صوَّت... وضبحُ الرياح: صوتها الذي يُسمع منها أثناء جريها، وضبح الرياح هو الأصل اللغوي لها، إذ أن ضبح الخيل والأرنب والثعلب إنما وضع لصوت جريان الهواء في أفواهها، فضبح الرياح هو الصوت الجامع لها كلها.
ويكون ما نفهمه من آية: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً}، أي: انظر أيها الإنسان إلى هذه الرياح في جريها، وإلى ذلك الصوت المنبعث عنها، وتطلَّع من ذلك إلى هذا الربّ العظيم الذي يُرسلها لك ويصرِّفها، فكِّر في ذلك، تُدرك من ورائها عظمة خالقها وقدرة مُرسلها.
ثم بيَّن تعالى لك آية ثانية من آياته فقال سبحانه: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً}.
والموريات: جمع مورية، والمورية: هي المُخرجة الشَّرر أو النار، يُقال: أوْرى فلانٌ النار، أي: أشعلها. وأوْرى الزند، أي: أخرج ناره.
والمراد بكلمة (الموريات) هنا: أي الغيوم. والقدْحُ: هو الطعن، وأن يصدُم شيءٌ شيئاً، فيخرج من ذلك شررٌ ونار. يُقال: قدح فلان بالزَّند، أي: حاول إخراج النار به، وقدح عود الثقاب، أي: صكَّه بالعلبة ليخرج النار.
والمراد (بالْمُورِيَاتِ قَدْحاً): الغيوم تحتكُّ ببعضها وتقدح، فينشأ عن هذا القدح شرارات كهربائية، وبرق لامع. فمن الذي ساقَ لك هذه الغيوم؟ ومن الذي جعل فيها هذه الكهربائيات؟ ومن الذي يجعلها تحتكُّ وتقدح فينشأ عنها هذا النور والضياء؟ ثم بيَّن لنا تعالى آية ثالثة من آياته فقال: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً}.
والمغيرات: جمع مغيرة، والمغيرة: هي المسرعة في سيرها ووقوعها. والمغيرة هي المغيثة. يقال: أغارنا الله بالمطر، أي: أغاثنا. والمراد بالمغيرات هنا: الأمطار فهي تغير، أي: تنصبُّ انصباباً، وهي تغير، أي: تُغيث الناس فينبت بها الزرع ويحيا الضرع، والصبح هو الشيء الظاهر البيِّنُ، يُقال: أصبح الحقُّ، أي: استبان ووضَحَ. وأصبح الصباح: أضاء.
و (صبحاً): هنا يُبيِّن حال الأمطار في ظهور نفعها للخلق، فالله تعالى يقول:
انظروا عبادي إلى الأمطار كيف أنها تغير على الأرض، فتغيثكم غياثاً ظاهراً بيِّناً كالصبح!
ثم بيَّن لك تعالى آية رابعةً من آيات رحمته وكرمه بك، وفضله عليك، فقال تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً}.
وأَثَرَ: بمعنى: نَقَلَ وحَفِظَ. ومنه الحديث المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: المنقول والمحفوظ. والنون في كلمة (أثرن) إنما تدل على صفات الله تعالى من رحمةٍ وإحسانٍ وعطفٍ وحنانٍ وغيرها من صفات الكمال.
والهاء: من كلمة (به) إنما تدلُّ على ذلك النظام الذي بواسطته صار نزول الأمطار، والنقع: هو الماء المجتمع، ويكون مُجمل ما نفهمه من آية: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً}.
أي: وإنني يا عبادي برحمتي وإحساني وعطفي وحناني نقلتُ لكم بذلك النظام البديع مياه الأمطار وحفظتُها لكم في تلك المستودعات.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}.
ووسط الشيء: أي جعله في مكان متوسط، والنون في كلمة (فوسطن)، تعود أيضاً على صفات الله تعالى. والهاء: من كلمة (به) ترجع إلى النقع، أي: الماء المجتمع. وكلمة (جمعاً) تعني: جميع المخلوقات الحية من إنسان وحيوان ونبات.
ويكون مُجمل ما نفهمه من آية: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} أي: إنني برحمتي وحناني وما إليها من صفاتي سيَّرتُ لكم هذا الماء المجتمع من فتحات معيَّنة وبمعايير مناسبة، فكانت منه العيون والأنهار التي تجري متخلِّلة الأرض بحيث تستفيدون منها جميعاً.
والحمد لله رب العالمين