لديك ما يكفيك من خبز ولكن
بعد ثلاث ساعات في أحد الطوابير الممتدة أمام المخابز في قطاع غزة، يبدو أن الأمر أصبح أكثر تقبلاً، بالنسبة لي على الأقل، من المرة الأولى، التي لم أكن لأتردد يومها من فتح جبهة حرب شعواء عند أول فرصة تسنح لي، حتى ولو مع الذباب.
بات التأمل في وجوه المصطفين كراهيةًَ، هوايةً أرى فيها هموماً أليفة، أحاديث متناثرة عن الحنين إلى الكهرباء، أو اشتياق إلى استحمام يوميّ حالت ندرة المياه دونه فأصبح حلماً صعب المنال، سباب سياسي لهذا الطرف أو ذاك، أنباء غير مؤكدة عن قصفٍ وقتلى وجرحى..
في الجزء الملآن من الكأس، وهو حتماً أقل من النصف بكثير، عاملان يثيران ارتياحي؛ الأول، أن مجرد وجود طابور أمام المخبز، يعني فعلياً بأن الأمل موجود، عفواً أقصد أن الخبز موجود، وأن رحلة الانتظار، التي رافقني فيها أحد أصدقائي، ستنتهي أخيراً إلى خروجي من هذا المأزق الممتد حتى آخر الرصيف حاملاً ربطة الخبز المنشودة.
أما العامل الثاني، فهو أن وقوف الغزّيين بهذا الشكل "الحضاري" يعني أننا خيبنا أمل موشيه دايان وزير الدفاع الإسرائيلي في حقبة السبعينات الذي جزم بأن العرب لن ينتصروا لأنهم قوم لا يقرؤون ولا يعرفون كيف يقفون في طابور. بينما اليوم في غزة، فالحمد لله – الذي لا يحمد على مكروه سواه – أينما يممت وجهك فثمة طابور!!
هل يلام المواطن في غزة، لأنه يسأل؛ الخبز والطحين والكهرباء، والراتب والغاز والماء، والوقود ورفع الحصار وفتح المعابر وحرية السفر والتعبير و و .. إلخ من قائمة المفقودات في القطاع؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها، وهذه ليست إلا محاولة لإرهاق الغزّيين جرياً خلف هموم يومية، لكي لا يتسنى لهم الوقت ليرفعوا رأسهم، وصوتهم، إلى أعلى؟؟
ولأن الجيوش تزحف على بطونها، كما يقال، وكي لا نحمّل غزة ما لا طاقة لها به، فالحق يقال، أنه لا يمكن أن نخوض معركة تحرّر وصمود، أو حتى بقاء، دون توفير أدنى متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين، فما لا يدرك كلّه، لا يترك جلّه.
لا يعقل أبداً أن يملي المصطافون على شاطيء السلطة توجيهاتهم على المصطفين في طابور الخبز ليعبدوا رب هذا البيت، حرروا العباد أولاً من همّ خبزهم اليومي كي تحرّروا بهم البلاد، هكذا يلتئم الحلم، وتكتمل الآية..