theredrose
| موضوع: نسرين .. السفر بين مؤاب ودمشق ... د. خالد الكركي 30/3/2011, 20:36 | |
| نسرين .. السفر بين مؤاب ودمشق ... \د. خالد الكركي \ أثار أصابع أستاذي ... كم مارست الركض خلفها بين كل الأوراق المنشورة وكم بحثت بين أروقه الأرواح عن روح لا تشبهها روح منهل من عذوبة اللغة حين تكون في أنقى حالاتها تعلمت منك كيف تكون صادقا حرفا ... صادقا فعلا ... بلون كنقاء الثلج
أستاذي دكتور خالد... كم من الحروف قد تفيك حقك كم من الكلمات ستقول لك شكرا كم منا مر ولم يشعرك بقيمتك في حياته ... لكنني هنا أقول لك ... كم تعلمت منك .. فأي الشكر يفيك ..! ......
نسرين .. السفر بين مؤاب - ودمشق
بقلم : د. خالد الكركي
" لو كان ثمة ما يقالُ
أرق مما قاله العشاق من قبلي لخلصت العبارة من تلعثمها وذبت من الحنينِ كما يذوبُ الناي في القصب العبيد "
شوقي بزيع ¯ سراب المثني
المشهد الأول: دمشق تلك هي, شالها المؤابي المرخي على شعرها الحرير, بين النعاس والحنين تقف, وقد أضناها المسير من مؤاب الى دمشق, وما كنت ادري, وانا بين يدي صلاح الدين الايوبي, وفي غمرة ضوء ضريحه ان اراها هناك, فعهدي بها انها منذ وصولها الى الكرك بعد غيابها الاسطوري الطويل تسعي كي تعيد تدفق الماء في عين الست , وجريان الموج في السيل, وطرد الملوحة من البحر..! تلك هي, مطر يهطل في الحميدية, التي يصعد السوسن من شرفاتها كي يراها, وهي تتكئ على باقة ورد مؤابي خبأته الكرك منذ زمن الفتح العظيم اكليل شكر ومودة لضريح يوسف بن ايوب.. اقترب من موكبها, احاذر ضجيج القلب الذي يغالبه الشوق كي يلثم موطئ قدميها, ارده على وعد ان ارافقه الى ضريح ابن عربي في قاسيون, لكنه يريد ان يمد عروقه وطاء لها, لأنها العذبة الروح, التي اعطت جرود مؤاب سنوات عمرها الجديد, بعد ان صار عمرها الأول رمادا مرا مثل شجر الدفلى الذي يزين سيلنا الحزين.
تلك هي, لازورد البحر, وغمام نيسان, ونبيذ دير صلى به الرهبان والعشاق.. وغزال شارد في اللامتناهي وخائف من المجهول,.. تلك هي: ورد دمشقي على شرفة اندلسية في قرطبة, وقنديل من الميدان يضيء ليل مؤاب.
قلت: ليتني اعانقها وأبكي.. فأنا اخشى على مؤاب ان غابت, انها السيدة الوردة, والسيدة المحراب, والسيدة الممتدة في عروق دالية تقطّر الغناء لعشاق مؤاب منذ الف سنة وتزيد.. فكيف لي ان اجمع عطرها ونبيذها وبنفسجها وكفيها وايقاعها وكحلها في نص صحراوي حيث لا ماء ولا خيال ولا مآذن ولا حبر ولا كلام!!
ناديت عليها فخذلني صوتي, استعرت ربابة عازف في الحميدية فخانتني اصابعي.. كانت بهاءاتها تغمر المكان كله والناس يظنون انها قادمة للتو من دنيا بعيدة مثل موال دمشقي حزين عن الذين مسهم جنون العشق وقلق الرحيل..., كان الهجر شديدا, وكم تمنيت لو ان ابن عباد يطلع من اشبيلية, ليأمر بيوم من ايام الطين لعل اميرة مؤاب تغوص في غبار الطيب, وماء الورد, وحرير الاندلس, وحنين عبد الرحمن الداخل الى دمشق.. الآن قد تحضر الرميكية من اندلس الغياب.. يحضرها كهان الرؤى.. فالسيدة التي تتقدم من ضريح صلاح الدين وتقرأ من مصحفها في حضرته قد صارت وطنا ولم تعد بعد امرأة.. انها التي طيرت في سمائنا يمام العشق مذ عادت, وعلمتنا, حين هبت على الروح بخورا مقدسا, كيف تصير الجنازات اعراسا, والغباري ندى, والعبارات اجنحة, والرايات علامات على اوطان لم يغتصب عدو بكارتها.. وعلى بلاد طهرتها النار والريح والانبياء ونجيع الشهداء.
ها أنت في دمشق, ودمشق اندلس الحضور, اذن, يهطل الثلج على الصحراء ويعود بردي الى فتوته وعنفوانه, ويترجل يوسف العظمة للسلام على صلاح الدين, ويبحثان معا في وجع فلسطين... ويعود عبد الرحمن الداخل الى مدينته عبر اوروبا فاتحا وعاشقا وامويا عظيما.
انت في دمشق. هنا يشتد الهمس الشامي: اميرة من مؤاب, في ضريح يوسف بن ايوب. ويطلع غناء جديد على شرفات الصالحية: زينوا المرجة والمرجة لينا شامنا فرجة وهي مزينا وتجتاح المكان لوعة مئذنة في مدينة داهمها الاعداء, وتصمت اجراس كنيسة في مؤاب حزنا على غيابها الف عام
^ ^ ^ اقترب من الضريح, الناس في ضجيج مثل زمن ايوبي بعد انتصار حطين, والسيدة تقرأ في مصحفها, وتهز نخيل حزنها الكربلائي الزينبي في ساحة المسجد الاموي, والمكان مرايا من زمان عتيق, وقد اشتجر الكلام,
الاشياء بأضدادها: التذكر والنسيان, والنصر والهزيمة, والحرية والاستبداد, والعشق والموت,
^ ^ ^ انها هناك متوحدة بصلاتها, كفاها وصايا مكتوبة بارجوان العشق والعذاب, وروحها صهيل عامر بالحرية بين دمشق والكرك, وفي خاطرها أن اميرا ايوبيا صعد الى حتفه امام اسوار القدس خير من رجال زمانها الجديد!!
انها هناك, ومؤاب ما تزال بانتظارها, القرى, والمضارب, والعشاق, والفرسان والغناء العتيق: لا تفكروا البعد نساني طريق أهلي . وبين المكانين روح بني ايوب العاصفة بالحرب والتحرير..
^ ^ ^ اشتد الضجيج وصعد الى شرفات المدينة, الزائرة تغادر الضريح, قلت: هواي مع الركب اليمانين مصعد .. وانطلقت مثل سهم اتعبته الكهولة الى حيث يعلو جواد يوسف العظمة, وقلت لنفسي: ان مرت من هنا سأمتطي السور القريب, وأرش على موكبها من ياسمين دمشق ونرجسها ووردها الجوري, ثم أنشد في حضرتها شعرا في يوسف العظمة.. وكأن التمني قد صدق, وتلك هي: ألق, وضحى, وعبير, وقهوة مؤابية معتقة من زمانها الأول, تلك هي تطل على الساحة وأنا قاعد على السور ألم الورد والياسمين والنرجس, انادي عليها, انا المؤابي الذي منحته حريته وكلامه. وانشد من شعر علي محمود طه في الشهيد العظمة:
هب الكمي على النفير الصائح مهلا فديتك ما الصباح بواضح أومأت الى حراسها.. تقدموا مني واقتادوني, لم ارفع عيني نحوها, فقد صارت موكبا من النور, نهضت من ارتباكي..., رفعت رأسي نحو هودجها, داهمني حلم بأنني معلق في حلم تائه في الريح بين زيزياء وبصري, لكنني احسست بالجميل والبهي ثم تراجعت مثل ذئب اسير, وانا كقابض على الماء خانته فروج الاصابع .
المشهد الثاني: الكرك
صوت الغناء لا ينقطع: يا قلب لو كنت اطولك لاقطعك وارميك , وقد حيرني هذا القلب الذي يحفظ شعر المتنبي ويتبع خطاها منذ الف عام من اعوام عمر الخيام!! وها هو القلب أسير في موكبك الطالع من حوران في رحلة عودته الى الكرك, لا احد يغفر لي هذا الشغف, او يداري حزن دهر علي الراحلين الذين عبروا, وانا بينهم وما كنت ادري قبل المؤابية ما البكا, و لا موجعات القلب حتى تولت . ظل حراسها يصدون قامتي المتعبة كلما لاحت لهم من بعيد, تراجعت حتى اطلت على الوادي من شرفات الزمن العتيق, تذكرت نداءات جميل بن معمر: فليت رجالا فيك قد نذروا دمي وهموا بقتلي يا بثين لقوني ولكنني هنا قعيد لا سيف لي ولا ذراع, و مشارف لا تصنع سيوفا, وصلاح الدين لا يطل على الكرك حتى تحتفي به محررا وفاتحا, ولو عاد لخرج الفلاحون والبدو الذين قاتلوا معه من اضرحتهم, واستعادوا مواقعهم على اسوار المدينة, يدافعون عنها, ويرقبون موكب اميرتهم العائدة من دمشق بعد سلامها, باسمهم, على يوسف بن ايوب.. ولحدثتنا عن موته, يوم ترجل في قلب دمشق, آنذاك كتب بهاء الدين بن شداد في سيرته: ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه فما مكنا ان ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة الا بالقرض, حتى في ثمن التبن الذي بلت به الطين .
خطر لي ان ابعث بها برسالة اناشدها فيه ان تبني مدرسة او مدينة باسم صلاح الدين, وان تسكب عليها من صبرها وعطرها حتى يصل شذاها الى العالم القريب والبعيد, الممتد بين القدس وغرناطة وسحر بغداد العظيم.
^ ^ ^ نسرين, نعم أنا مشتاق , وغريب انا, ولكن: ولا تحسبي ان الغريب الذي نأى ولكن من تنأين عنه غريب وها انا لا القاك الا في نهايات الغروب بين الكرك ودمشق!! انت التي ان حضرت اخضر شجر العشق على السيل وسقيته من رؤاك الجارحات!! هل انت انت التي في الحلم المؤابي, سنابل ممتدة بين القصر و المزار !! ام انت اسطورة ننام على حكاياتها ونستفيق!!
يقولون: القت رداء الحزن عنها وعادت الى مؤاب!! ويقولون: فتشت عن اضرحة الكبار كي تقرأ الفاتحة لارواحهم, واطالت الوقوف عند اضرحة نمر العدوان, وعودة ابو تايه, ومصطفى وهبي التل, وفراس العجلوني, ومنصور كريشان. ويقولون انها ان رأت غصنا لوزيا اجهشت عشقا, وان شاهدتها شقائق النعمان وهي تخطر في الربيع استبشرت بالشهداء, وان جاءها النعاس ايقظت وردها كي يسهر معها حتى طلوع الشمس على جبال مؤاب..
نعم انا مشتاق , وبيننا حواجز الزمان والمكان والتاريخ, وبيننا قامات من الحزن, وحراس النساء الجميلات حتى لا يذهبن الى مواعيد ويغلقن الابواب!! اخاف غيابك, واخاف ان يأخذك الليل بعيدا عن الوطن, واخشى ان لا يظل لنا ضحى بعد رحيلك.. آنذاك سيهطل غيث كثير على قبر في مؤاب غريب!!
^ ^ ^ نسرين, أناشدك الله ان لا يكون لك رحيل, وغدا سأنقش بيت المتنبي على مدخل المدينة الشرقي: وما انسدت الدنيا عليَّ لضيقها ولكن طرفاً لا اراك به اعمي
فاخرجي الى الساحات, وسأنشد من اعلى برج في المدينة ما يستحق سمعك بصوت ابي الطيب نفسه: بأبي الشموس الجانحات غواربا اللابسات من الحرير جلاببا المنهبات قلوبنا وعقولنا وجناتهن الناهبات الناهبا الناعمات القاتلات المحييا ت المبديات من الدلال غرائبا
الم من سهوب مؤاب ما ظل من ريحان وحكايات وصبا جنوبي, واتبع الضغائن التي تطوي الدروب بك, وأنت تعلنين الوداع لأن زمن الصعود الى القلعة قد اقترب.. واعجب لمن يحضر هذه الساعة المرة كيف لا يحضر في خاطره كلام عتيق: عجبت وقد ودعتها كيف لم أمت وكيف انثنت بعد الوداع يدي معي
غدا, قيل لنا, تعود الى اسطورتها, وتدخل الى غياهب القلعة, فقد تدفق الموج واشتعلت الحياة, وعادت مؤاب الى غضبها بعد صبرها الطويل, وغدا ستجلس سيدة من امهاتنا تروي لأجيال جديدة حكاية اميرة مؤاب التي عادت من دمشق اسطورة ونجمة, ويغلبها الحزن وهي تصغي الى نواح بعيد: يا من درى يا حبيب الروح نتلاقى !
سيخرج فتى جديد حاملا اسم المدينة في روحه, ويقرأ حكايات عن المؤابية التي عادت الى مدينتها, وعن ليلى العائدة الى قيس, وعفراء التي اشتاقت الى زمن عروة, وينادي عليها من شقوق البيوت القديمة وهي تصعد في شارع الخضر: سلم بعينك وخلي ايدك بحناها , فيستجيب للدعاء صوت آخر حزين سبل عيونه ...
ختام:
ها أنا عند حدود الشغف المجنون اهذي بالكلام, حاملا كأسين من دمع وخمر لهواي المستهام, اكتب الخط على الريح التي تمحوه ان جن الظلام لا مؤاب الحلم أبهى منك اذ يصعد في مؤتة نور وسيوف وخيام وأنا, قبل الرحيل المر مذبوح على محراب عينيك مؤابا وشآم, فاسكبي في روحي العطشي غماما, واكتبي في مشهد الفجر على باب مؤاب: ايها العشاق: قد طاب هواها فادخلوها بسلام | |
|