هناك
شبهة ادعاها بعض غلاة المستشرقين من قديم ، وأقام بناءها على وهم فاسد ،
وخلاصة هذه الشبهة : أن الحديث بقي مائتي سنة غير مكتوب ، ثم بعد هذه المدة
الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث ، وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث ،
فصار هؤلاء يقول الواحد منهم : سمعت فلاناً يقول سمعت فلاناً عن النبي صلى
الله عليه وسلم ، وبما أن الفتنة أدت إلى ظهور الانقسامات والفرق السياسية ،
فقد قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى تثبت أنها على الحق ، وقد قام
علماء السنة بدراسة أقسام الحديث ونوعوه إلى أقسام كثيرة جداً ، وعلى هذا
يصعب الحكم بأن هذا الحديث صحيح ، أو هذا الحديث موضوع .
ويمكن إيجاز الرد هذه الشبهة من وجوه :
1-
أن تدوين الحديث قد بدأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ،
وشمل قسماً كبيراً من الحديث ، وما يجده المطالع للكتب المؤلفة في رواة
الحديث من نصوص تاريخية مبثوثة في تراجم هؤلاء الرواة ، تثبت كتابتهم
للحديث بصورة واسعة جداً ، تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة .
2
- أن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة
جداً في كتابة الحديث ، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير ، فتم في
أوائل القرن الثاني ، بين سنة 120 ـ 130 هـ ، بدليل الواقع الذي بين لنا
ذلك ، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية ، مثل
جامع معمر بن راشد(154) ، وجامع سفيان الثوري(161) ، وهشام بن حسان(148) ، وابن جريج (150) ، وغيرها كثير .
3
- أن علماء الحديث وضعوا شروطاً لقبول الحديث ، تكفل نقله عبر الأجيال
بأمانة وضبط ، حتى يُؤدَّى كما سُمِع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فهناك شروط اشترطوها في الراوي تضمن فيه غاية الصدق والعدالة والأمانة ،مع
الإدراك التام لتصرفاته وتحمل المسئولية ، كما أنها تضمن فيه قوة الحفظ
والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معاً ، مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه
كما سمعه ، ويتضح ذلك من الشروط التي اشترطها المحدثون للصحيح والحسن
والتي تكفل ثقة الرواة ، ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد ،
وسلامته من القوادح الظاهرة والخفية ، ودقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط
والقواعد في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد دليل على صحته ، من غير أن
ينتظروا قيام دليل مضاد له .
4
- أن علماء الحديث لم يكتفوا بهذا ، بل وضعوا شروطاً في الرواية المكتوبة
لم يتنبه لها أولئك المتطفلون ، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة
شروط الحديث الصحيح ، ولذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من
راوٍ إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه ، ونجد عليها إثبات السماعات ، وخط المؤلف أو
الشيخ المسمَع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها ، فكان منهج
المحدثين بذلك أقوى وأحكم وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات
والمستندات المكتوبة .
5
- أن البحث عن الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام الزاعم ، بل
فتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35
هجرية لصيانة الحديث من الدس ، وضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في
التفتيش عن الأسانيد ، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحثاً عنها واختباراً
لرواة الحديث ، حتى اعتبرت الرحلة شرطاً أساسياً لتكوين المحدث .
6
- أن المحدثين لم يغفلوا عما اقترفه الوضاعون وأهل البدع والمذاهب
السياسية من الاختلاق في الحديث ، بل بادروا لمحاربة ذلك باتباع الوسائل
العلمية الكافلة لصيانة السنة ، فوضعوا القيود والضوابط لرواية المبتدع
وبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع .
7
- أن هذا التنوع الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط
، بل إنه يتناول إضافة إلى ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه ، وهو دليل
على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم ، فإن مما يستدل به على دقة العلم وإحكام
أهله له تقاسيمه وتنويعاته ، بل لا يُعد علماً ما ليس فيه تقسيم أقسام
وتنويع أنواع ؟!!.
8
- أن علماء الحديث قد أفردوا لكل نوع من الحديث وعلومه كتباً تجمع أفراد
هذا النوع من أحاديث أو أسانيد أو رجال ، فلا يصلح بعد هذا أن يقول قائل :
كيف نعرف هذا الحديث أنه صحيح من بين تلك الأنواع ؟ ونحن نقول له : كذلك
وقع التنوع في كل علم وكل فن ، فلو قال إنسان : كيف نحكم على هذا المرض
بأنه كذا وأنواع الأمراض تعد بالمئات ؟ ، وكيف نبين هذا المركب الكيمائي من
بين المركبات التي تعد بالآلاف ؟ لأحلناه على الخبراء المتخصصين ليأخذ
منهم الجواب الشافي والحل المقنع ، فكما يرجع في الطب إلى الأطباء ، وفي
الهندسة إلى المهندسين ، وفي الكيمياء إلى علمائها ، والصيدلة إلى أصحابها
.... فكذلك يُرْجَع في الحديث إلى علمائه المتخصصين في هذا العلم لأخذ
البيان الجلي المدعم بالأدلة القاطعة عن كل حديث نريده ونود معرفة حاله .
فظهر بذلك تهافت هذه الشبهة وبعدها عن الموضوعية والمنهجية .
منهج النقد في علوم الحديث د . نورالدين عتر بتصرف