تقدمت
الإشارة - في الجزء الأول من هذا الموضوع - إلى بعض الشبه التي استند
إليها منكروا حجية السنة في العصر الحديث ، حيث استدلوا ببعض الآيات التي
أساءوا فهمها وتأوَّلوها على غير وجهها ، محرفين فيها الكلم عن مواضعه .
وإضافة
إلى ما استدلوا به من آيات ، فقد تمسكوا أيضاً بجملة أخبارٍ منسوبة إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - تؤيد - بحسب زعمهم - ما ذهبوا إليه من عدم
الاحتجاج بالسنة ، ووجوب عرض ما جاء فيها على كتاب الله .
ومن هذه الأخبار ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود فحدّثوه فخطب الناس فقال : ( إن الحديث سيفشو عنِّي ، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عنِّي ، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عنِّي )
، فقالوا : إذا أثبتت السنة حكماً جديداً فإنها تكون غير موافقة للقرآن ،
وإن لم تثبت حكماً جديداً فإنها تكون لمجرد التأكيد فالحجة إذاً في القرآن
وحده .
ومن هذه الأخبار التي استدلوا بها ما روِي أنه - صلى الله عليه وسلم- قال :
( إذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ، قلته أم لم أقله
فصدّقوا به ، فإني أقول ما يُعرَف ولا يُنكَر ، وإذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً
تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدِّقوا به ، فإني لا أقول ما يُنكَر ولا يُعرَف
) ، فقالوا هذا يفيد وجوب عرض الحديث المنسوب إليه - صلى الله
عليه وسلم - على المستحسن المعروف عند الناس من الكتاب أو العقل ، فلا تكون
السنة حجَّة حينئذ .
ومن تلك الأخبار أيضاً ما رُوِي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إني لا أحلُّ إلا ما أحلَّ الله في كتابه ، ولا أحرِّم إلا ما حرَّم الله في كتابه ) ، وفي رواية : ( لا يمسكنَّ الناس عليَّ بشيء ، فإني لا أحلُّ لهم إلا ما أحلَّ الله ولا أحرَّم عليهم إلا ما حرَّم الله ) .
هذه هي خلاصة الشبه التي أوردوها ، وهي شبه ضعيفة متهافتة لا تثبت أمام البحث والنظر الصحيح ، وتدل على مبلغ جهلهم وسوء فهمهم .
وجواباً على ما أوردوه من أحاديث يقال :
أما الحديث الأول : ( إن الحديث سيفشو عني .... )
فإن أحاديث العرض على كتاب الله ، كلها ضعيفة لا يصح التمسك بشيء منها كما
ذكر أهل العلم ، فمنها ما هو منقطع ، ومنها ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول
، ومنها ما جمع بين الأمرين ، وقد بَيَّن ذلك ابن حزم ، و البيهقي ، و السيوطي ، وقال الشافعي في
الرسالة : " ما روَى هذا أحدٌ يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير ، وإنما هي
رواية منقطعة عن رجل مجهول ونحن لا نقبل هذه الرواية في شيء " ، بل نقل ابن عبد البر في جامعه عن عبد الرحمن بن مهدي
قوله : " الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث " ، ثم قال : " وهذه الألفاظ
لا تصح عنه - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه " .
بل
إن الحديث نفسه يعود على نفسه بالبطلان ، فلو عرضناه على كتاب الله
لوجدناه مخالفاً له ، فلا يوجد في كتاب الله أن حديث رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - لا يقبل منه إلا ما وافق الكتاب ، بل إننا نجد في القرآن إطلاق
التأسي به - صلى الله عليه وسلم - ، والأمر بطاعته ، والتحذير من مخالفة
أمره على كل حال ، فرجع الحديث على نفسه بالبطلان .
ومما يدل على بطلانه كذلك معارضته الصريحة لقوله - صلى الله عليه وسلم - :
( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو
نهيت عنه ، فيقول : لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) رواه أبو داود .
وعلى
التسليم بصحة الخبر فليس المراد منه أن ما يصدر عن النبي - صلى الله عليه
وسلم نوعان : منه ما يوافق الكتاب فهذا يُعمل به ، ومنه ما يخالفه فهذا
يُردُّ ، بل لا يمكن أن يقول بذلك مسلم ، لأن في ذلك اتهاماً للرسول عليه
الصلاة والسلام بأنه يمكن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن ، وكيف لمؤمن أن
يقول ذلك وقد ائتمنه الله على وحيه ودينه وقال له : {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي }(يونس 15) .
فالرسول عليه الصلاة والسلام معصوم من أن يصدر عنه ما يخالف القرآن ، ولا يمكن أن يوجد خبر صحيح ثابت عنه مخالفٌ لما في القرآن .
فيكون
معنى الحديث إذاً : " إذا رُوِي لكم حديث فاشتبه عليكم هل هو من قولي أو
لا فاعرضوه على كتاب الله ، فإن خالفه فردُّوه فإنه ليس من قولي " ، وهذا
هو نفسه الذي يقوله أهل العلم عندما يتكلمون على علامات الوضع في الحديث ،
فإنهم يذكرون من تلك العلامات أن يكون الحديث مخالفاً لمحكمات الكتاب ،
ولذلك قال " فما أتاكم يوافق القرآن : فهو عنِّي ، وما أتاكم يخالف القرآن
فليس عنِّي".
وعندما
نقول : إن السنة الصحيحة لابدَّ وأن تكون موافقة للقرآن غير مخالفة له ،
فلا يلزم أن تكون هذه الموافقة موافقة تفصيلية في كل شيء ، فقد تكون
الموافقة على جهة الإجمال ، فحين تبين السنة حكماً أجمله القرآن ، أو
توضِّح مُشْكِلاً ، أو تخصص عامَّاً ، أو تقييد مطلقاً ، أو غير ذلك من
أوجه البيان ، فهذا البيان في الحقيقة موافق لما في القرآن ، غير مخالف له .
بل
حتى الأحكام الجديدة التي أثبتتها السنة ودلَّت عليها استقلالاً ، هي
أيضاً أحكام لا تخالف القرآن ، لأن القرآن سكت عنها على جهة التفصيل ، وإن
كان قد أشار إليها وتعرض لها على جهة الإجمال حين قال : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }( الحشر 7) .
وأما الحديث الثاني : ( إذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ....) ، فرواياته ضعيفة منقطعة كما قال البيهقي و ابن حزم وغيرهما
، فضلاً عما فيه من تجويز الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - وذلك في
عبارة : ( ما أتاكم من خبر فهو عنِّي قلته أم لم أقله ) ، وحاشا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أن يسمح بالكذب عليه وهو الذي تواتر عنه قوله : ( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار ) أخرجاه في الصحيحين .
وقد رُوي هذا الحديث من طرق مقبولة ليس فيها لفظ ( قلته أم لم أقله ) منها رواية صحيحة أخرجها الإمام أحمد :
( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه
منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه
أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه ) .
والمراد
منه أن من أدلَّة صحة الحديث وثبوته أن يكون وفق ما جاءت به الشريعة من
المحاسن ، وأن يكون قريباً من العقول السليمة والفطر المستقيمة ، فإن جاء
على غير ذلك كان دليلاً على عدم صحته ، وهذا هو الذي يقوله علماء الحديث
عند الكلام على العلامات التي يعرف بها الوضع وليس هذا مجال بسطها .
نعم
قد تقصر عقولنا عن إدارك الحكمة والعلَّة ، فلا يكون ذلك سبباً في إبطال
صحة الحديث وحجيته ، فمتى ما ثبت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- وجب علينا قبوله وحسن الظن به ، والعمل بمقتضاه ، واتهام عقولنا ، قال ابن عبد البر : كان أبو إسحاق إبراهيم بن سيار يقول
: " بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من فم القربة ،
فكنت أقول : إن لهذا الحديث لشأناً ، وما في الشرب من فم القربة حتى يجيء
فيه هذا النهي ؟ فلما قيل لي : إن رجلاً شرب من فم القربة فوكعته حية فمات ،
وإن الحيات والأفاعي تدخل أفواه القرب علمت أن كل شيء لا أعلم تأويله من
الحديث أن له مذهباً وإن جهلته ".
وأما الحديث الثالث : ( إني لا أحلُّ إلا ما أحلَّ الله في كتابه ....) ، فهو حديث منقطع في كلتا روايتيه كما قال الشافعي و البيهقي و ابن حزم .
وعلى فرض صحته فليس فيه أيُّ دلالة على عدم حجية السنة بل المراد بقوله : ( في كتابه ) ما أوحى الله إليه - كما قال البيهقي - فإن ما أوحى الله إلى رسوله نوعان : أحدهما وحي يتلى ، والآخر وحي لا يتلى ، ففسَّرَ الكتاب هنا بما هو أعم من القرآن .
وقد ورد في السنة استعمال الكتاب في هذا المعنى في الحديث الذي رواه الإمام البخاري حيث قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم :
(والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم ردٌّ ، وعلى
ابنك جلد مائة وتغريب عام ، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )
فغدا إليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
فرُجِمت ، فجعل - صلى الله عليه وسلم -حكم الرجم والتغريب في كتاب الله ،
مما يدُلُّ على أن المراد عموم ما أوحي إليه .
وحتى
لو سلمنا أن المراد بالكتاب القرآن ، فإن ما أحلَّه رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - أو حرمه ولم ينص عليه القرآن صراحة ، فهو حلال أوحرام في
القرآن لقول الله تعالى : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ( الحشر 7) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - :
( ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا
وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما
حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله ) رواه الترمذي وغيره .
وأما رواية : ( لا يمسكنَّ الناس عليَّ بشيء ...) ، فقد قال فيها الشافعي إنها من رواية طاووس وهو حديث منقطع .
وعلى افتراض ثبوتها فليس معناها تحريم التمسك بشيء مما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أو الاحتجاج به .
وإنما
المراد أنه -صلى الله عليه وسلم - في موضع القدوة والأسوة ، وأن الله عز
وجل قد خصَّه بأشياء دون سائر الناس فأبيح له ما لم يبح لغيره ، وحُرِّم
عليه ما لم يُحرَّم على غيره ، فكان المعنى : لا يتمسكن الناس بشيء من
الأشياء التي خصني الله بها ، وجعل حكمي فيها مخالفاً لحكمهم ، ولا يقس
أحدٌ نفسه عليَّ في شيء من ذلك ، فإن الحاكم في ذلك كله هو الله تعالى ،
فهو الذي سوى بيني وبينهم في بعض الأحكام ، وفرَّق بيني وبينهم في بعضها
الآخر .
وبهذا
يتبين أن الأحاديث التي استند إليها أصحاب هذه الشبهة منها ما لم يثبت عند
أهل العلم ، ومنها ما ثبت ولكن ليس فيه دليل على دعواهم ، فلم يبق لهؤلاء
المبتدعة - الذين نابذوا السنة ، وتأولوا القرآن على غير وجهه - من حجة إلا
اتباع الهوى ، وصدق الله إذ يقول : {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين }(القصص 50) ، نعوذ بالله من اتباع الهوى ، ومن الزيغ بعد الهدى .