سبق في مقال (
شبهات حول حجية السنة ) أن منكري السنة على قسمين ، قسم أنكرها صراحة ودعا
إلى نبذها بالكلية سواءً أكانت متواترة أم آحادية زعماً منهم أنه لا حاجة
إليها وأن في القرآن غنية عنها ، وقسم لجأ إلى التشكيك في بعض أنواعها حين
فشل في الطعن فيها كلية فرأى الحجية في نوع منها دون غيره ، فردوا الأخبار
التي لم تصل إلى حد التواتر زعماً منهم أنها لا تفيد اليقين ، ورفضوا العمل
والاحتجاج بها .
وكانت المعتزلة من أوائل من أثار هذه القضية ،
وذلك ليتسنى لهم العبث في النصوص وردِّ ما يحلو لهم منها ، فأسقطوا بذلك
جملة من الأحاديث الصحيحة الثابتة التي تعارض ما ابتدعوه في أبواب الدين ،
وسدُّوا جميع الطرق أمام معرفة الله وأسمائه وصفاته ، وفي مقابل ذلك أحالوا
الناس على أمور وهمية ومقدمات خيالية سمُّوها - بزعمهم - قواطع عقلية
وبراهين يقينية قدَّموها على نصوص الوحي ، وحاكموا النصوص إليها .
وقد
تكلم علماء الإسلام على هؤلاء المنكرين لحجية خبر الآحاد وفنّدوا شبهاتهم
وأباطيلهم في أدلة واضحة بينة لا تحتمل الردَّ أو التأويل وكلُّها توجب
العمل بحديث الآحاد والاحتجاج به ، وكان من أوائل العلماء الإمام الشافعي
رحمه الله الذي عقد فصلاً طويلاً في كتابه " الرسالة " تحت عنوان " الحجة
في تثبيت خبر الواحد " ، فكان خير من تكلم في هذه المسألة ، وجميع من كتب
بعده عيال عليه .
وقد تعلق هؤلاء المشكِّكون بعدد من الشبه الواهية التي زعموا أنها تؤيد ما ذهبوا إليه في ردِّهم لخبر الواحد وعدم قبوله .
من ذلك قصة ذي اليدين الثابتة
في الصحيح حين توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبول خبر ذي اليدين
لما سلَّم على رأس الركعتين في إحدى صلاة العشاء فقال له ذو اليدين : " أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ " ، قالوا فلم يقبل خبره حتى أخبره أبو بكر و عمر
ومن كان في الصف بصدقه ، فأتمَّ عليه الصلاة والسلام صلاته وسجد للسهو ،
ولو كان خبر الواحد حجة لأتمَّ - صلى الله عليه وسلم - صلاته من غير توقف
ولا سؤال .
ثم قالوا : وقد روي عن عدد من الصحابة عدم العمل بخبر الآحاد ، فقد ثبت أن أبا بكر ردَّ خبر المغيرة بن شعبة في ميراث الجدَّة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة ، وثبت أن عمر ردَّ خبر أبي موسى في الاستئذان حتى انضم إليه أبو سعيد ، وكان علي لا يقبل خبر أحد حتى يحُلِّفه سوى أبي بكر ، وردَّت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله إلى غير ذلك من الروايات .
وكلُّ
ما ذكروه من شبه في الحقيقة ليس فيها دليل على ما ذهبوا إليه من عدم
الاحتجاج بخبر الواحد ، والإجابة عنها في غاية الوضوح لمن كان يعقل .
فأما
توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر ذي اليدين ، فلأنه توهم غلطه
حيث استبعد أن ينفرد بمعرفة هذا الأمر دون من حضره من الجمع الكثير ، ولذا
قال له - صلى الله عليه وسلم - ( لم أنس ولم تقصر الصلاة )
، وكان هذا اعتقاده - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يُكَلَّف الإنسان بقبول
خبرٍ مع اعتقاده خطأه ، فلما وافقه غيره ارتفع احتمال الوهم عنه ،
فَقَبِلَه - صلى الله عليه وسلم - وعمل بموجب الخبر عندما تبين له عدم
الوهم ، وبعبارة أخرى كان يقين ذي اليدين معارضاً ليقين النبي - صلى الله
عليه وسلم - ولا يمكن تقديم أحدهما إلا بمرجح خارجي وهو شهادة الصحابة
الباقين .
وأمَّا ما أوردوه من أن عدداً من الصحابة لم يعمل بخبر
الآحاد ، فإن الثابت الذي لا شك فيه أن الصحابة رضي الله عنهم مجمعون على
العمل بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم آحادًا كان أو غير آحاد - ،
فإذا روي عنهم التوقف في بعض الأخبار فإن ذلك لا يدل على عدم الاحتجاج
والعمل به ، بل قد يكون لغرض آخر كطروء ريبة ، أو احتمال الوهم ، أو سدِّ
ذريعة أو مزيد رغبة في التثبت والاحتياط إلى غير ذلك من الأغراض .
فردُّ أبي بكر رضي الله عنه لخبر المغيرة
في ميراث الجدَّة لم يكن ردَّاً منه لخبر الآحاد ، ولكنه توقف فيه إلى أن
يأتي ما يؤيده ويزيده تثبتاً من وجود هذا التشريع في الإسلام ، وهو إعطاء
الجدَّة السدس ، خصوصاً وأنه لم ينص عليه في القرآن فكان لا بد للعمل به
وإقراره من زيادة في التثبت والاحتياط ، فلما شهد محمد بن مسلمة أنه سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتردد أبو بكر في العمل بخبر المغيرة ، ومع أن شهادة محمد بن مسلمة لم ترفع الخبر عن كونه آحاداً ، إلا أن أبا بكر لم يتردد في قبوله والعمل به .
وأما ردُّ عمر رضي الله عنه لخبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان فإن أبا موسى أخبره بالحديث عقب إنكاره عليه ،فأراد عمر
التثبت والاحتياط في الرواية سدَّاً للذريعة ، لئلا يفضي ذلك إلى التوسع
في الحديث عن رسول الله ، خصوصاً ممن نشأ حديثاً في الإسلام أو دخل فيه ،
ولذلك قال عمر لأبي موسى : " أما إني لم أتَّهِمك ولكنه الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، ومثل ما قيل في قصة أبي بكر يقال في قصة عمر ، فلم تخرج رواية أبي موسى عن كونها آحاداً حتى بعد أن انضم إليه أبو سعيد إلا أن عمر رضي الله عنه أراد أن يعطي درساً في التثبت والاحتياط .
وقد قبل عمر رضي الله عنه أخباراً أخرى هي من قبيل الآحاد ، فقد روى أبو داود أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : " الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا " حتى قال له الضحاك بن سفيان كتب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أوَرِّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها " فرجع عمر إلى الحديث .
وقبل رضي الله عنه خبر عبد الرحمن بن عوف في أمر الطاعون ، وغيرها من الأخبار ، مما يدل على أن عمر رضي الله عنه لم يرُدَّ الخبر لكونه آحاداً .
ومثل
ذلك يقال في كل ما ورد من هذا القبيل ، فالصحابة إذاً لم يتوقفوا في
الاحتجاج بخبر الآحاد والعمل به ، بل أجمعوا على قبوله كما سبق ، وتوقُّفِ
بعضهم أحياناً لبعض الأسباب ليس توقفاً عن العمل به ، قال الآمدي
: " وما ردوه من الأخبار أو توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود
معارض أو فوات شرط ، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها مع كونهم متفقين على
العمل بها " والله الموفق .