عن الجنون , عن أبيه , عن جده ..
حدثني الجنون عن أشياء خارقة للطبيعة , ولا يستطيع شخص طبيعي أن يفعل ذلك , أشياء ما كنت مضطرة لتذكير نفسي بضرورة التأني في استيعابها , فقد كان كل شيء فيها يصرخ بهشاشة العقل وسرعة العطب والاحتراق ..
حدثني الجنون أنه عقل جديد بدأ يحتل أرض عقلي الأصلي , وأنه لديه قدرة جيدة على إجراء عمليات تفكير لا يستطيع عقل طبيعي فعلها , فأصبحت مسحورة بذلك البرهان على أنني أفكر من أقوى عقل يمكنه التفكير , فكرة واحدة سليمة كانت كفيلة بقطع كل الخيوط التي تربطني بعقلي الأصلي , كل ما كان يشمله عقلي الأصلي من حبي لأمي وأبي الميتين , وكرهي لأعدائي , ذكرياتي وما تشمله من أسى وفرح , اسمي ونفسي , كل هذا طار فجأة في الهواء كما تطير مجموعة من فقاعات الصابون وتختفي فجأة ..
حدثني الجنون أن فيه يكمن الهروب وبدا يؤكد لي ذلك مثل طفل يؤكد خيالا لا يعرف أنه مستحيل , في الجنون وفي حرف جر , تعني لي المماطلة في الوقت , و في الجنون ... في .. في .. حتى أتذكر في ماذا لأسرق الوقت متذرعة بالجنون ..
حدثني الجنون أن في قلب أمي حب كبير , لا ليس حب , انه شيء أسطوري لا يشبه تلك الكلمة المبتذلة " الحب " , في قلب أمي حيز وفراغ كبير يشملنا جميعا إلا هي, وضياء أبيض يسد ثغرات الدور المنسوب إلينا في مسرحية الحياة تتفقدنا به إذا ما كنا نملك أدنى فكرة عن ذلك الدور, لتبتلع مخاوفنا من الخروج أمام آلاف الجمهور المتلهف الذي يغص به المسرح , وفي قلب أبي هموم , حين يرانا يطردها بتنهيدة حارة حتى لا تنافسنا سكنى قلبه ..
وفي الوسائد قصص أحلام وأمنيات , وتدريب جيد في حالة إذا ما اضطررنا أن نروض وسائدنا بحكايا نحكيها لها حتى ننام نحن أو تنام هي ونظل نحن نبحث عن كيفية النوم , في الأبواب أسرارنا , أمامها سر مفضوح وخلفها سر دفين ..
في الوطن , بيت بُني من خمس كلمات , انتماء , وطنية , مواطن , جنسية , ونشيد , وفيه خمسة وخمسون مهمة علينا إنهاءها حتى نصبح نحن الكلمة السادسة "مواطن من الدرجة الأولى" , وكلما اقتربنا من إنهاءها يستمر الوطن برفع المهام في كل مرة نقترب فيها من الانتهاء ولما ننتهي بعد , وحين نطلب وطن من الدرجة الأولى, نطالب بإنهاء الخمس والخمسين مهمة , وسنحصل على وطن تحت الثرى لا يحتاج إلى كلمات خمس حتى نصبح ميت من الدرجة الأولى ..
في المستشفى , مريض وطبيبان , يسأل المريض الطبيب الأول كيف حكمت أنني أعاني من سرطان في الرئة ؟! أجاب الطبيب لأنني طبيب سرطان الرئة ..!
وسأل الطبيب الآخر : كيف حكمت أنني مصاب بضمور في القلب ؟! أجاب لأنني طبيب قلب ؟!
ثم سأل المريض نفسه : هل أنا مريض في رئتي أم قلبي ؟! ما شأن قدمي المكسورة التي جاءت بي إلى هنا إذن ؟!
في المستشفى , رجل ذي أنف مكسور يبحث عن طبيب تجميل وآخر مهتم بشطب المتوفين من قائمة الانتظار لقلوب وأعضاء لم تأتي بعد ..
في المرحلة النهائية للمرض , تشعر أنك خاوي, وأن جزء ما منك مفقود , ولديك رغبة في أن تنهض دون أن تسيء إلى الباقي من صحتك , تحلم أن تنام نومتك الأخيرة في مكانك المفضل , ولكنك تنام وبجسدك عشرات الأنابيب المتصلة بأجهزة تصدر أصوات تفسد لك الباقي من أحلامك , فتلك الأصوات تقول لك بصوت واحد كف عن التمني فأنت إلى زوال بعيدا عن كل أشياءك التي تحب ..
في تلك المنطقة المجوفة من الرأس , عقل يفترض به أن يفكر ولكنه ناقم حتى على التفكير , يستطيع أن يفعل كل شيء إلا أن يكون ممتن للخيار السليم , لأنه يرى كل الأمور اثنين فيختار الثالث وهو التفكير بعينه ..
في الهاتف , أرقام وأسماء لتسعون شخصا لا نستعمل منها سوى عشرة فقط , والبقية احتياط أو ربما لازلنا ننقب في ذاكرتنا من هؤلاء ؟! في الهاتف , ذاكرة تسع كل شيء إلا أن تخبرنا أننا لا يمكننا أن ننخرط في حوار مع الذاكرة دون أن نصاب بفيروس يمحي من ذاكرتنا كل تلك الأسماء والأرقام كما كنا نعزم محوها من ذاكرة الهاتف , في الهاتف , رسائل مرت بكل الأشخاص الذين نعرفهم وتصل إلينا باردة وقد فقدت نكهتها وربما قد سُرق نصفها لأن المرسل بخيل في مشاعره يفضل إرسال الرسائل القصيرة المختصرة ..
في الشارع , طالب هرب من صفه , وعجوز يبيع له السجائر وينصحه أن لا يدخن السجائر إلا بحامل سيجار , فالعجوز مادي بطبعة ليطعم ابنه , وشرطي مرور يسأله ما اسم أمه حتى يتصل بها .
في المسجد , تائب يوبخ نفسه بشكل عنيف لأجل كل الفرص التي فوتها حتى ليركل نفسه والجدار ندما على كل الأخطاء التي ارتكبها , وحين يخرج تدهسه سيارة نقل ..
في شهادة الميلاد , اسم يفترض أنه اسمك , وتاريخ يفترض به أن يكون تاريخ ميلادك , ومكان يفترض أنه وطنك أو مكان ميلادك , فانتماءك الوطني من الطبيعي أن يكون للمكان الذي تنفست فيه رئتك للمرة الأولى , للغبار الذي خالط ذلك الهواء , المكان الذي اكتشفت فيه أن لون دمك أحمر , المكان الذي شهد البداية الحقيقية لحياتك , في شهادة ميلادك , خانة تطلب جنسيتك , تكتب فيها حروف قد لا تعني شيئا إلا لكاتبها , وشعور مكان ميلادك بالظلم حينها أمر طبيعي , جرب أن تفقد عمدا شهادة ميلادك , وأخرج بدل فاقد , ضع اسما جديدا وتاريخ ميلاد ومكان جديدين , هل تعتقد أن الأمر بهذه البساطة لتغير كل شيء ؟ تعرف أن محاولة النسيان أصعب من التذكر , هل تعتقد أنك إذا أنشأت حروفا تتضمن حياة جديدة وذكريات ستصنع لك حياة أخرى ؟ وأنك إذا ما فكرت في ذكرياتك وحياتك الجديدة إلى درجة كافية فسوف تضيع القديمة مع الزمن ؟ تريد أن تتأكد أن تثبيت ذكرياتك الجديدة في ذهنك الجديد الذي ولد بدل فاقد عن آخر فقدته عمدا ؟ قد تكون بعد كل هذا جثة راق لها الجو داخل شهادات ميلاد مفقودة, وذكريات مفقودة واسم مفقود , ترى وجوها تظن أنك تعرفها فتعود إلى ذاكرتك المفقودة فلا تجد فيها وجوها تشبهها ولكن ذلك الجزء الذي لم تستطع أن تخرج له بدل فاقد لأنه لا يفقد يؤكد لك أن تلك الوجوه أنت تعرفها ..
عندما تصبح صفحة الجنون بيضاء تماما , سيزداد الأمر سوءا , سيحدثني الجنون عن طريق العقل عن تلك الأشياء الخارقة للطبيعة وسأتحدث , ثم يتبع ..
رواه الجنون عن أبيه عن جده أنه سمعني أتحدث عنه ..
حدثني الجنون أحاديث المتذمرين و الذين يتوخون الحذر و المتعقلين أولئك الذين يحاولون أن يبلغون المائة من أعمارهم و حين يدركهم الموت لا يستطيعون الهرب ،و في القول المأثور عن الجنون أنه من الأفضل أن نموت على أقدامنا ولا نعيش على ركبنا ..
حدثني الجنون أنه في الوقت المناسب يكمن التأجيل،و أنه في الدعاء منبع الندم ، و أن الأمنيات ضوضاء قادمة من مكان خارجي لتزعج الواقع ..
حدثني الجنون أنه يمكنني أن أنسى نفسي و قد أدركت أنه لا يمكنني أن أجلس على مقعد طبيب أسنان ثانية أو أسمع بحادث سيارة أو صرخة في منتصف الليل دون أن أخاف من أنه الموت قد استيقظ ..
حدثني الجنون أن العين لا تحتمل رؤية السواد أكثر من ثلاثة أيام ، لذا كانت أيام الحداد ثلاث ولكن بعض العيون ترفض الاعتراف بوجود الموت فترتدي السواد وهو أمر يفوق إحباطا من محاولة الشكوى من تسرب بعض الإيمان به إلى قلوبنا ..
حدثني الجنون أننا نقضي وقت ممتع مع العبوس بصحبة الماضي وحين تنتهي قصصنا عن الماضي والواقع نبدأ نتحدث عن ما سيحدث لنا في المستقبل و في ما سنقلق بشأنه ..
حدثني الجنون عن الكراهية ، تلك الصريحة التي نترجمها بعبارات غير متسامحة و أعين تومض شررا مثل جمر يستحيل إطفاؤه ، تلك الكراهية التي نحملها و نحافظ عليها بخبث مثل كنز ثمين ، تلك الكراهية لشخص معين و التي لا نستطيع التعافي منها إلا بحلول أشد منها ..
رواه الجنون عن أبيه , عن جده , أنه سمعني أتحدث عنه في غرفة فاسدة الهواء , حين نلت منه واعتبرته مادة وهذا هو سري , وقررت أن ألقيه من نافذة عقلي وسوف يسقط ويتهشم , أن أضرم فيه النار وسوف يحترق , أن أدفنه ويتحلل , أن ألقي به في حاويات القمامة , وكنت قد أبرمت معه اتفاقية في لحظة ضعف مني وقد كنت أحاول إنقاذ حياتي , ولكنني الآن لا أرغب بإنقاذها , فليسمعني أتحدث عنه ..