براهين الحب
الأبطال يقدمون الرؤوس والنفوس لتلك المعالي والضروس ، فيا عابد الدراهم والفلوس، عش في عبوس، ودم في نكوس.
قال نور الدين محمود: (( اللهم احشرني في حواصل الطير وبطون السباع، فرزق الشهادة. وقال ابن الطرماح: اللهم لا تجعل وفاتي علي سرير في الدار، ولكن اقتلني بسيف الكفار. وقال طلحة يوم أحد: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضي. وقال عبد الله بن جحش: اللهم إنك تعلم أني أحبك.. وقال إعرابي رب أرسل علي في المعركة سهماً يقتلني.. وصح في الحديث : (( من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات علي فراشه))، وسأل ابن رواحه ربه أن يطعن في سبيله طعنة تصل الكبد !..
يا ليت أنك قد حـضرت نزالنا *** ورأيت كيف تقطع الأعناق
كأس المنايا بيننا نحـــسو به *** حب المهـــيمن كله ترياق
صارت كأغماد السيوف دورنا *** والرمح في أحشائنا خفاف
متضرجين دماً فلو أبصرتنــا *** أنسـاك ما قلد أنشد العشاق
طعن الإمام المحدث النابلسي بالخنجر في سبيل الله، فكلما طعن طعنة قال: الله الله الله !، فمات وهو يقول الله الله !.. قال أهل السير نزف دمه، فكتب علي الأرض الله الله الله ، فالله أعلم ، والعهدة علي الرواة:
إذا قتـلوا صحت بحق دماهــم *** وكانت قديماً من مناياهم القتل
تدوس الخيول الصافنات رؤوسهم *** غريبون لمال لديهم ولا أهل
تكسرت الأسياف يوم نزالهم *** وفلت رماح الموت وانقطع النبل
تضحية برجال لا بجمال !
وفي عالم التضحية يتقدم عضد الدولة الملك المشهور بذبح ثلاثة ملوك من الكفار في عيد الأضحى المبارك ويهنئه الشاعر فيقول:
صل ياذا العــلا لـربك وأنحـر *** كل ضد وشانئ لك أبتر
أنت أعلي من أن تكون ذوي السؤدد *** تيجانهم أمامك تنثــر
كلما خر سـاجــدا لك رأس *** منهم قال سيفك: الله أكبر !
وهذا مثل أضحية الأمير خالد القسري لما صعد المنبر يوم عيد الأضحى ، فخطب الناس وقال أيها الناس: ضحوا تقبل أضحيتكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم،إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، يقول ابن القيم:
ولذاك ضحي خـالد بالجـعـد *** يوم ذبائح القـــربـان
إذ قال إبراهيم ليس خليلــه *** كـلا ولا مـوسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة *** لله درك من أخي قربـــان
(يحبهم ويحبونهم)
( يحبهم) !.. هذا عجيب، لأنه غني عنهم، وهم فقراء إليه، ولا يعتمد عليهم، ويعتمدون عليه ، ولا يطلب شيئاً منهم، وهم يطلبونه في كل شئ .
وعجيب أن يحبهم وهم مخلوقون ، وهو الذي خلق، ومرزوقون وهو الذي رزق.
(ويحبونه) .. ليس بعجيب، فقد صورهم وهم أجنة ، ثم أخرجهم من بطون أمهاتهم وله المنة ، ثم هداهم بالكتاب والسنة.
ويحبونه؛ لأنه أعطاهم القلوب، والأسماع ، والأبصار ، وسخر لهم الشمس والقمر والنهار، وحماهم من الأخطار في القفار والبحار.
ولو قال: يحبهم، وسكت لتوهم منهم الجفاء، ولو قال: يحبونه، وسكت، لقيل ليس لهم عنده اختفاء، فلما قال: (يحبهم ويحبونه)، تم الوداد والصفاء، وظهر الوفاق والوفاء.
ضحايا الحب .. شعراً
الحب في لغة الـهوي حرفان *** لكنه يوم النوى لغــتان
لغة القلوب ولا يفك رموزها *** إلا فؤاد دائم الخفقان
متوهد بهليب ذكري لو هوت *** في البحر ظل البحر في هيجان
ومضرج بدم الشهادة معلناً *** أسماء من ذبحوا علي القربان
ذابت حشاشة ورق خطابه *** فتجاوبت لحنينه العينان
بعثت له بالدمع ألف رسالة *** مظروفة بكمائم الأجفان
فإذا قرأت حروفها في ليلة *** أيقنت أن الحب شئ ثان
الحب ليس قصيدة عربية *** محبوكة الأطراف والأوزان
الحب ليس رواية منسوجة *** للعرض والأعلام والإعلان
الحب ليس تهتكا وتهافتاً *** وتظاهراً بمرارة الحرمان
الحب ليس من الدعي مقالة *** منحوتة بعجائب البلدان
كلا وليست خيمة بدوية *** مضروبة الأطنان في الصوان
ما كان حباً مسرحية عابث *** أدوارها تصميك بالدوران
الحب أن يقف الفؤاد مولهاً *** أنفاسه من لاهب النيران
لو سال من جسم المحب دماؤه *** كتبت حروف الحب في الجدران!
ترمي العيون إليه وهي نواعس *** سهمين من وصل ومن هجران
فإذا التقي سهم الوصال بقلبه *** هزته ذكر ملاعب الولدان
وإذا أتي بالهجر سهم صائب *** فهو الشهيد بساحــة الميدان
وتثير أنفاس الصباح بروحه *** أشواق من رحلوا من الأوطان
فيظل في بحر التذكر باكياً *** ما عاد من صبر ومن سلوان
وإذا الصبا هبت وحل أريجها *** هجر الكرى ومجالس الإخوان
لو مر طيف حبيبه بمنامة *** لارتاع وهو يعد في الشجعان !
أما الضلوع فلو لمست لهيبها *** لظننتهـا مـن لاهب النيران !
هجر الرقاد وقد تصدق بالكرى *** فكأنه يشكو إلي الدبــران
خلعت له الجوزاء من أسمالها *** ثوب السهاد بليلة الأحـزان
وكساه حتى الليل بردة عاشق *** تغنيه عن خلع وعن قمصان
تلقاه مفجوعاً يقلب كفه *** متلهفاً كـالواله الحــيران
فإذا غفا فحبيبه في جفنه *** متمثلاً في صـورة الخجلان
وإذا صحا من يهوي غدا *** في كل ناحية وكل زمــان
إن لاح برق قال بسمة عاشق *** أو ناح رعد قال صوت فلان!
والصبح طلعة وجهه وجماله *** والغيث يشبه دمع من يهواني!
ونشيد طير الروض يحيي ميتاً *** من شوقه في سالف الأزمان
فهو المعذب ما قد راعه يحنو له *** حساده فهو البعيد الــداني
يا لائمي في الحب ليتك ذقنه *** وسقاك من جفنيه من أسقاني!
إن كنت تعذلني فجرب ساعة *** هجر المحب وفرقة الخلان
فلسوف تعذرني وتفقه قصتي *** وتبيت أنت مجرح الأركان
أنا ما هويت مربرباً ألحاظه *** سحر وفوق لماته خالان
ورموشه كسيوف هند اشرعت *** ضرباتها تهدي الردى لجنان
وعلي الجبين من الجمال مهابة *** وحلاوة من منطق فتان
فالنور من تلك الثنايا ذائب *** والشهد ترشف شمعة شفتان
وكلامه سحر حلال مترف *** ينسيك عذب معازف العيدان
وكلامه سحر حلال مترف *** لا يصح سامعه من الإدمان
سكر من النغم البريء وآخر *** من دفء حب إنه سكران
قالوا الثريا علقت بجبينه *** وتوضأت بضيائها كفان
ما روضة فيحاء باكر الندي *** والغيث مساها علي إبان
والمسك في أعطاف كل خميلة *** ما شئت من شيح ومن ريحان
والطل في أردانها متمارج *** لله من طل ومــن أردان
يوماً بأذكى من تضوع عطره *** كلاً ولا في الحسن يستويان
لم يسبني هذا ولم أهدي له *** حبى ولم أراهن عليه جناني
كلا وما أحللته من مهجتي *** روضاً وما اسكنته بستاني
عهد الزيانب كله أنسيته *** وذكرت كل العمر ما أنساني!
حبي لمن منح الجميل وزادني *** شرفاً وبصرني الهدي وحباني
حبي لمالك مهجتي ولخالقي *** ولرازقي هو صاحب السبحان
شرفي بأرني عبده يا فرحتى *** والفخر لي بعبادة الرحمن
وعليه سار الفائزون جميعهم *** متوهجين إلي عظيم الشان
ولأجله بذلوا النفوس وعلقت *** تلك الجماجم والتقي الجمعان
سالت علي حد السيوف دماؤهم *** وسعوا دامي الملابس قاني
ومقطع الأوصال يسحب جسمه *** فوق اللظي، يشوي علي الصوان
ومبعثر الأشلاء لو جمعته *** ألفيته بحواصل الغربـــان !
قتلوا لأجل محبهم وحبيبهم *** وسواهمو لمحبـــة النسوان!
فاعرف( ضحايا الحب) وافعل فعلهم *** إن كان ذاك الفعل في إمكان
فإذا جبنت من القتال وخفت من *** وهج السيوف وزحمة الشجعان
وخشيت من وخز الرماح ولم تطق *** ضرب الردى من فارس طعان
وبخلت بالنفس النفيسة موقناً *** أن العلا حرمت علي الكسلان
فاهجر فراشك والمنام مهللاً *** يوم الاذان يضج في الآذان
واحضر إلي الصف المقدم ضارعاً *** متملقاً للواحـــد الديان
واسكب دموعاً لا تصان لموقف *** عند العظيم مصور الأكوان
واهتف بصوت خافت متخشع *** متصدع لعجائب القــرآن
ومعفراً منك الجبين ومعلناً *** ندمـاً بنطق مقصر خجلان
فإذا أبيت ولم تطق هذا ولم *** تقدر عليه لسطوة الشيطان
فتمن موتاً عاجلاً وارحل فما *** أقسى البقاء لمفلس خسران!