في القلب لا في الرأس
ويزعجنا إيليا أبو ماضي بصياحه ونحيبه وعويله وصراخه وهو ينادي:
يا من لقلب كلــما ضــمـدته *** ملأ الجراح مواجعي وحواسي
لو أنه في الرأس كنت ضــمــدته *** لكنه في القلب لا في الرأس
وما الجرح؟.. أظنه جرح الهوي والغي الذي شرحه في طلاسمه ( جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت)..
محب يتوب
يا أخي لغني أنك تبت ، وإلي ربك أنبت، فسرني والله ذلك سرور من وجد المفقود وبشر بالمولود؛ لأننا كنا نفقدك في صفوف الطائعين، والآن وجدت ، وكنا نسأل عنك في موكب الضالين وتجددت ، فو الله لو كتبنا برموش العين علي صحائف الخدود تحية لقدومك لما انصفنا ، ولو رسمنا بنياط القلوب علي سويدائها ثناءنا عليك لما بالغنا ، احبك الله فاجتباك وآثرك فاصطفاك ، كنت عبد بعد التوبة قريباً مطيعاً محبوباً، يا أهلاً بمن فرخ الله بتوبته، يا مرحباً بمن استبشرت الملائكة بعودته، يا سهلاً بم تفتحت السماء لدعائه، يا حناناً لمن ذابت المهج لبكائه، يا قرة عين لمن أنصت عالم الغيب لندائه، سبحان من ابتلاك بالذنب ليكسرك كسرة فيها حسرة، ثم جبرك بالتوبة لتذوق لذة الأوبة ويغسل عنك أدران الحوبة، ركبت إلي الخطايا المطايا فأمهلك وما أهلكك براً وكرماً ، ثم جذبك إليه بحيل التوفيق وأركبك سفينة النجاة في البحر العميق، تبارك من ألبسك تاج التوبة، وزينك بوشاح المحبة، وجملك براء القبول، دمعك علي ما مضي يسأل في ديوان الرضي ، وتأسفك علي ما فات منشور الحسنات وسلم الدرجات، كلما قلت من ذنبك آه، قيل لك : طبت يا (أواه) فقد قلبك الله، كلما صحت من خطاياك ونحت ، نوديت نجوت وأفلت ، كلما ذرفت منك دمعة أوقدت لك في عليين شمعة ، كلما ضج فؤادك شاكياً باكياً قيل لك: دمت طاهراً زاكياً، أدمت الخطيئة ـ قبل ـ أبيك آدم فنودي: يا آدم لو لم تكن التوبة أحب شئ إلينا ما ابتلينا بالذنب أعز الناس علينا:
لعل عتبك محـــمود عواقبه *** فربما صحت الأجسام بالعلل
لما ترك الذنب زال عنه الكرب ، وذهب عنه الخطب، ورضي عنه الرب )ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى):
سـامح الدمـــع إن أبان جوانا *** نحن لا نكتم الدموع الغزارا
بكي داود حتى بكت معه أحبابه، وتفجع حتى رق له أصحابه فنودي:
رجوعك إلينا أحب من إدلالك علينا، دمعة علي مصابك أشرف من ألف ركعة مع إعجابك، فيا أيها التائب لو تدري بمدلول حديث : ((لله أفرح بتوبة عبده)) لهمت طرباً ، ولتقطعت من الشوق إرباً إراباً ، ولو علمت بتزين الجنان لقدومك لجعلت أفراح أعيادك مكان همومك ، ولو اطلعت فرأيت مقعدك في الفردوس الأعلى، والملائكة ينادون أهلاً وسهلاً ، والحور يقلن وأغلي وأعلي لذبت سروراً ولملئت حبوراً ، ولصرت من البهجة مبهوراً ، وفي ظلال الإنس مغموراً ، أيها التائب أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس ، فأنت ابن اليوم لا غد ولا أمس، طاب ممشاك، وأفلح وجهك، وقرت عينك، وسرت روحك، وعلا قدرك، ورفع ذكرك ، هنئياً لك بنداء: ) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) ، إذا وصلك الخطاب، وعرفت الجواب النبي صلي الله عليه وسلم ورفع لك الحجاب، فسبحان من جبر كسر من زل، ودمل جرح من ضل ، وراش جناح من ذل، اقترفوا ، وعلي الهلاك اشرفوا، فاعترفوا، فبشروا بـ (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) ، أخطؤوا ،فأسفوا، وندموا علي ما أسلفوا فوعدوا بـ) بَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) للمعاصي في أول العمر أزلفوا، ثم عادوا إلي باب أرحم الراحمين ووقفوا فسمعوا:
)قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) .. يتقلب التائب في الليل الداجي يبكي ويناجي فيقال له: ما عليك أطلعنا فسترنا ، وعرفنا فعذرنا ، وعلمنا فحملنا، وقدرنا فغفرنا!.
قال التائب : يا رب أذنبت قال: وأنا غفرت ، قال التائب: ذنوبي تجل عن الإحصاء ، قال الرب: ولو بلغت عنان السماء، قال التائب: يا رب أهلكتني السيئات ، قال التائب : يا رب تسامحنا علي ما فات أما تحاسبنا علي تلك الزلات؟ فقال الرب: بل أبدل السيئات حسنات، قال التائب: لا أكرم منك أحد ، قال الله أنا الصمد!..
جاء مذنب إلي عالم فقال: غرقت في الذنوب، فقال له: الآن أدركتك رحمته علام الغيوب ، وقال أحد السلف: والله لو خيرت أن يحاسبني ربي أو يحاسبني أبى وأمي لاخترت حساب ربي لأنه أرحم الراحمين!.
أيها التائب أبشر فإن تذكرك لذنبك طاعة منك لربك، كلما احترق قلبك بنار الدم ، ذابت جبال الخطايا والمم، كلما أطار الهم نومك وكدر الحزن يومك غسلت سيئاتك ومحيت خطيئاتك ،التائب حبيب الله وصديق عباده، وضيف رحمته، ووافد جنته، ومستحق كرامته، وحائر قربه، التائب يحبه المرسلون لأنه صدق قيلهم، واتبع سبيلهم ، واقتفي دليلهم، والتائب تحبه الملائكة؛ لأنهم يستغفرون له ، ويفرحون بطاعته، ويحبون توبته، والتائب يحبه المؤمنون؛ لأنه أعانهم علي نفسه، وجاهد مهم شيطانه، وارضي إلههم وإلهه، دمع التائب طاهر، لو وقعت منه قطرة علي جليد الخطايا لذاب، ولو سقط علي ركام المعاصي لغاب ، دمع التائب علي صدق صاحبه برهان، وعلي صحة توبته سلطان:
إذا اشتبكت دموع في خدود *** تبين من بكي ممن تباكي
أيها التائب الآن عرفت فالزم،ووصلت فاسلم ، وحصلت فاغنم، فتقدم ولا تحجم، الباب أمامك مفتوح، والعطاء من ربك ممنوح، والكرم منه يغدو ويروح:
والله والله ما أبكي علي طلل *** أقفى وأقفر من أهل وسكان
ولا بكيت علي واد الغضا سحراً *** أو خيمة بين روض الطلح والبان
وما ذرفت دموعي في الهوي سفهاً *** لفيء خل ولا تذكار جيران
لكن لذكر ذنوب ليتها محيت *** بعفو رب وغفران وإحسان
قل للمخطئين ومن في المعاصي تورطوا، لأنكم خلقتم من الطين أبشروا برحمة ارحم الراحمين ، من الذي دعاه فما لباه؟ من الذي سأله فما أعطاه ؟ من الذي استجار به فما حماه؟ من الذي استنجد به فما كفاه؟ من الذي أوى إليه فما آواه؟.. أيها التائب ارتكبت امرأة ذنباً، فأسقت كلبا، فأرضت رباً، وكشفت خطباً، وأزالت كرباً، قالوا في الأخبار وقديم الآثار: وقعت حمامة في ملامة فأكثرت الندامة، فبكت علي الغصون بدمع هتون ، وناحت في شجون وأنشدت:
ربي إذا ما القلب أفحم بالرضا *** وبكي لفرط ذنوبه وأتاكا
هل تعف عنه وهلا تزيل همومه *** إذ لا إله لذي الوجود سواكا
فهتف بها هاتف يقول: من عصانا أمهلناه، ومن تاب إلينا قبلناه ومن أطاعنا قربناه.. يا أيها التائب أما تري فيل أبرهة وجهوه إلي البيت العتيق فأبي، وضربوه فبكي خجلاً من صاحب البيت!.
والله لو قطعـوا رأسي لأجلـكم *** لسار نحو هواكم في الهوي رأسي
ولو هوت قدمي ممشى لغيركم *** لقلت بيني وما البين من بأس
نظر رجل في المرأة وهو في الأربعين وقد عصى رب العالمين، فرأي الشيب قد غطي عارضيه فصاح: أواه، واأسفاه، يا رباه!، ثم ذهب إلي عالم فقال له:
أما تري الشيب في هذا السواد شطا *** ونحن في ليل لهو نركب الغلطا
أراه ينهـــرني عـمـا ألم بـه *** كـأنما هو سيف بالهلاك سطـا؟!
فقال العالم: إن كان صبح الشباب عذرك ، فإن غروب الشيب أنذرك ، فتب إليه واشك الحال عليه، فإذا لقيته يوم الدين ،وقال لك: عبدي ما أغرك بي؟ فقل برك بي .
بكي عمر بن عبد العزيز ثم قال : اللهم إنك قلت: )ُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، وأنا شيء فلتسعني رحمتك . وخرج أحد العباد يصلي بالناس الاستسقاء وهو شيخ كبير ، فكشف رأسه فإذا هو أبيض كالقطن، وقبض لحيته وبكي وقال:
سبحــان من يعفو ونفهو دائماً *** ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخــطي ولا يمنعه *** جلالة عن العطى لذي الخطا
فنزل الغيث .