شكراً (ضيعة ضايعة)... وقليلاً من الحياء يا (صبايا)!
محمد منصور
2010-09-21
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لا تقاس جودة العمل الفني وتكامله دوماً بضخامة إنتاجه، أو بما رصد له من ميزانيات كبرى، أو حشد له من نجوم بالضرورة. هذه قاعدة بات صناع الدراما السورية يتعامون عنها في السنوات الأخيرة، فيخسرون الكثير من الأعمال البسيطة والملهمة التي تمتلئ بالمضامين الإنسانية الأصيلة، والتي كان يمكن أن تشغل بعناية وبعمق، وأن تحصد نجاحاً ربما لا يتحقق في الإنتاجات الضخمة... وهذا ما يؤكده لنا في هذا الموسم مسلسل (ضيعة ضايعة) في جزئه الثاني والأخير للكاتب ممدوح حمادة، والمخرج الليث حجو.
أما كيف استطعنا أن نقرر أنه الأخير، فلأن الكاتب والمخرج ختما هذا الجزء ـ كما شاهد الكثيرون - بموت كافة أبطال المسلسل، بعد أن استنشق أهالي ضيعة (أم الطنافس الفوقا) مادة يشتبه أنها نفايات نووية سامة، وبالتالي فمهما أصرت الجهة المنتجة لاحقاً على استئناف أجزاء العمل تحت ذرائع مختلفة، ومهما وضعت من أعذار لعودة شخصية أو أخرى، عبر القول إنها لم تمت (كما حدث مع شخصية أبي عصام في الجزء الخامس من باب الحارة) فإنها لن تستطيع بالتأكيد إعادة جميع شخصيات المسلسل إلى الحياة... إلا إذا جعلوا أحداث الجزء الجديد تدور في الدار الآخرة لا في هذه الدنيا الفانية!
وبناء عليه، فإننا نحيي مخرج (ضيعة ضايعة) لأنه أراد أن ينهي هذه الكوميديا قبل أن تتحول إلى أضحوكة سخيفة، وأن يحافظ على وهجها فيودع الجمهور والمسلسل في قمة ألقه... ومن عجب أنني قرأت مقالاً في الصحافة السورية يتهجم على المخرج لأنه قرر احترام نفسه وفنه، ويطالبه بالعودة عن قراره الحكيم هذا... وهو أمر يمكن أن نقبله من جمهور عادي تعلق بشخصيات المسلسل وطرائفه، وليس من كاتب صحفي، يفترض أن يفهم كيف تبتذل الأعمال الناجحة في لعبة الأجزاء والسمسرة والضحك على الذقون!
مسلسل (ضيعة ضايعة) كوميديا تلفزيونية تعتمد على عنصري: البيئة والكاركتر في صياغة مرتكزاتها الأساسية. وهذه معادلة ليست جديدة على الفن السوري، وخصوصاً حين نتذكر أعمال دريد ونهاد التي صاغت كاركترات كوميدية مستلهمة من البيئة الشعبية الدمشقية... لكن (ضيعة ضايعة) ذهب نحو الريف، قدم كوميديا ريفية يفترض أنها تدور في الساحل السوري وتتحدث بلهجته أو إحدى لهجاته إن شئنا الدقة. لكن هذه الكوميديا في النهاية لا تعكس نمط حياة بيئة ريفية معاشة على نحو واقعي، بل هي تستعير عناصر من تلك البيئة، من أجل تركيب صورة قرية ليست خيالية تماماً، وليست واقعية تماماً أيضاً... إنها قرية تخلو من الأطفال، ولا نرى فيها حالات حمل وولادة، ولا نرى فيها مدرسة، والفلاحون لا يعملون في أراضيهم إلا لماماً... لكننا نرى فيها مجموعة عناصر وشخصيات نمطية يحتاجها الكاتب، من أجل طرح ما يشبه نمط المغامرات الكوميدية التي تشترك فيها شخصيات الضيعة حسب مقتضيات الحاجة إليها، في كل حلقة من الحلقات. فمن الجارين اللدودين: جودة وأسعد، إلى المختار، فالعاشق، فالمُخبر، فالمخفر المكوّن من شخصين أحدهما مدير، إلى البقّال الوحيد، فالمستوصف والطبيب، ثم مدير الناحية...عدا عن بعض الضيوف الطارئين حسب حاجة الكوميديا لهم أيضاً.
لكن أهمية ما قدمه كاتب العمل ممدوح حمادة، أنه أراد أن يجعل من قرية (أم الطنافس الفوقا) ساحة خلفية تبدو للوهلة الأولى مشغولة بمنازعات أسعد وجودة الساذجة، وغراميات سليم وعفاف المكشوفة، وكاريكاتورية الحياة الزوجية المسكونة بالنكد والألفة، إلا أن هذه الساحة تتحول شيئاً فشيئاً إلى بؤرة لمعالجة مشكلات الحياة السورية برمتها وتسليط الضوء عليها.
في إحدى حلقات العمل يتسلم الأهالي إنذارات بإخلاء القرية التي ستغمرها مياه سد قيد الإنشاء... يعد مختار القرية العاشق المتثاقف بأن يزوجه ابنته ويعطيه قطعة أرض، إن هو استطاع إيقاف قرار إنشاء السد... يمضي العاشق أوقاتا طويلة وهو يدبج عريضة للمسؤولين، لكن مصيرها يكون سلة المهملات. يستعينون بالصحافة ووسائل الإعلام من أجل طرح قضية القرية على الرأي العام، فتصدر التعليمات الأمنية إلى مخفر القرية على النحو التالي: الصحافة الوطنية لتفعل ما تشاء فهذه لا تهش ولا تنش ولا تخيف أحداً، أما الصحافة الأجنبية فينبغي عرقلة عملها. لا تفلح الصحافة فيقرر أهالي القرية الخروج في مظاهرة احتجاج، فيجدون شرطة مكافحة الشغب والهراوات الغليظة والأحذية الخشنة لهم بالمرصاد، وينتهي المتظاهرون إلى الهرب بعد أن أكلوا ما فيه النصيب... ثم يتسلمون إنذارات الإخلاء من جديد، لكن أحد المتسكعين يجد لهم الحل: أحضروا صندوقاً، واجمعوا فيه مبلغاً من المال، ثم اذهبوا به إلى البلدية وسيقف المشروع. يصرخ سليم محتجاً: شو قصدك برطيل؟! فيشتمه صاحب الاقتراح ساخراً، أما مشروع السد فيتوقف فعلاً!
هذه الحلقة (وهي أعظم ما قدمه المسلسل في جزءيه) تكاد تختزل بحق جوهر الفساد في الحياة السورية... وصورة المخفر الذي كلما وضع يده في قضية عقّدها وزاد من بؤسها هي أيضاً اختزال بليغ... وصورة المخبر (الفسّاد) بتشديد السين الذي يندس في الحياة اليومية للمواطن، ويصبح جزءاً من حياة ينغصها الوشاة والدساسون هي أيضاً معاناةٌ سورية، وقصة المسؤول الذي تبيح له سلطاته أن يتجاوز كل القوانين عندما يكون في السلطة، حتى ليقال إنه (يستطيع أن يفك رقبة مشنوق)، فيحظى كل من يعرفه بالدعم والتسهيلات، ثم يعاقب كل من عرفه أو مد له يده بالسلام، بعد أن يهرب... هي أيضاً حالة سورية، يتخذ صناع العمل من قرية (أم الطنافس الفوقا) ساحة للترميز الماكر لها، وللاختزال البليغ الذي لا يخفى على أحد!
وبالطبع ليست كل حلقات (ضيعة ضايعة) على السوية نفسها، فهناك حلقات جريئة لكنها بالكاد قالت ما قالته وفي فمها ماء... وهناك حلقات ترفيهية خفيفة، قدمت كوميديا قائمة على الطرافة فقط، واستغلت شبكة العلاقات التي رسمتها، من أجل تقديم مغامرات تضاف إلى سلسلة مغامرات هذه الشخصيات النمطية التي تبدو أدوات في يد الكاتب والمخرج، فهي لا تتطور، ولا تتأثر بما مر معها من أحداث، ولا ما عاشته من تجارب على محدوديتها... إنها تتفاعل مع موضوع كل حلقة على حدة، وهي إن خلقت حالة تراكمية لدى المشاهد، فعلى صعيد خفة ظلها المصنوعة والمستثمرة فنياً بشكل جيد، وليس على صعيد تطور وثراء عالمها الداخلي.
ولا نقول هذا الكلام على سبيل الانتقاص من تركيبة هذه الكوميديا الناجحة، بل على سبيل شرح قانونها الداخلي، الذي من حسن حظ الكاتب ومن حسن حظ الأبطال أيضاً، أن قيض لهم مخرجاً يحترم قانون الأشياء، ويبرع في فهمه كالليث حجو، الذي يمتاز عن أقرانه من المخرجين الشباب، باجتهاده العميق في قراءة النص الذي بين يديه، واختيار الشكل المناسب له، وهو هنا اختار حالة الغروتسك في الأداء... لكنه لم يترك الحبل على غاربه للممثلين كي يهرجوا ويتظارفوا. لقد هرجوا في الحيز الذي تسمح به أي كوميديا على الهامش؛ وهذا أمر شائع حتى في تجارب الكوميديا العالمية، لكن الأساس يبقى هو كوميديا الكاركترات المرسومة في مناخ بيئي واقعي وافتراضي، نجح الليث حجو في ضبط عناصره، وتصعيد مغامراته وترميزها وتلغيمها... مثلما نجح الممثلون جميعاً... ومع اعترافنا بتميز باسم ياخور ونضال سيجري في المقام الأول، إلا أن نجاح كل المشاركين في العمل، جاء بسوية متقاربة وكأن المخرج أولاهم جميعاً نفس الاهتمام، وهو أمر نادر الحدوث في أي عمل كوميدي.
شكرا لصناع (ضيعة ضايعة) وشكراً لليث حجو في المقام الأول... فقد استطاع أن يؤكد أن الإخراج الناجح هو الذي يحترم قضية النص، ويحترم ممثليه عبر حمايتهم من الشطط والانفلات... ويحترم جمهوره حين يغلق الباب أمام لعبة الأجزاء قبل أن تصبح لعنة على ما مضى وما سيأتي!
وماذا عن الحياء يا (صبايا)؟!
رغم أن رنا حريري كاتبة الجزء الأول من مسلسل (صبايا) قد تأخرت بعض الشيء حتى أصدرت بياناً تعبر فيه عن موقفها من هذا المسلسل بجزءيه، إلا أنني أحييها على إصدار البيان كنوع من الدفاع عن كرامتها ككاتبة. فقد اعتاد الكتاب أن يسكتوا كي لا يفسدوا علاقاتهم بالشركات والمخرجين، حتى تحول الكاتب في الدراما السورية إلى تابع، يرضخ لجهل المنتج، ولتسلط المخرج، ولنزوات ممثل صار منتجاً منفذاً فراح يفصل كل شيء على مقاسه!
قالت رنا حريري في بيانها إنها فوجئت بعد أن أنجزت الجزء الأول من المسلسل وقبيل عرضه مباشرة بأن المخرج لم يكن أميناً على النص الذي كلف بإخراجه، وبأن الصورة التي ظهر عليها العمل جاءت مغايرة تماماً لما أرادته ولما كتب على الورق أساساً.
وعندما طلبت منها الشركة المنتجة كتابة جزء ثان من المسلسل اعتذرت بسبب ضيق الوقت المتاح، فتم تكليف كاتبين آخرين (مازن طه ونور شيشكلي) تعهدا بإنجاز هذا المسلسل خلال المدة المطلوبة وكلف مخرج آخر بإخراجه (فراس دهني) على أمل تجاوز أخطاء ومشاكل الجزء الأول.. إلا أنه بعد أن عرض الجزء الثاني كانت الفاجعة أكبر: (وكأن الجزء الثاني جاء ليوغل في الأخطاء المرتكبة بحق الجزء الأول لا بل ليؤكد عليها) كما تقول.
أما نحن فنعتبر أن مسلسل (صبايا) الذي حشدت فيه الصبايا الجميلات في عمل تنتجه بإلحاح فضائية (روتانا خليجية) هو عار على الدراما السورية. عار بالنوايا التي بات العمل يسير بهديها من أجل إمتاع مشاهد (محروم) لا يهمه سخف الموضوعات أو جديتها، وعار على الذين يتحدثون عن الفن والثقافة والقضايا أن يسهموا في عمل يعرفون لمن ومن أجل أي شيء ينتج... والعار الأكبر أن يظهر جزء ثالث من المسلسل العام القادم كما يشاع الآن... وكأن كل الشتائم وحالة الاشمئزاز التي يلقاها العمل في الشارع السوري، لا معنى لها أمام صداه (المشرّف) في الشارع الخليجي!
ناقد فني من سورية