لن تستطيعوا بعث الموتى
حمدي قنديل
18/06/2012
أولاً، لابد لى من أن أقر الآن، بعد صدور حكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب، بأن الإخوان المسلمين كانوا على حق عندما رشحوا خيرت الشاطر، ومن بعده د. مرسى، لانتخابات الرئاسة.. لعلهم كانوا يضعون فى حسبانهم يومها أنهم ربما يفقدون البرلمان فى يوم ما.. وقد حدث.. ولم تكن لطمة واحدة.. جاءت اللطمة الثانية بالسماح للفريق شفيق بدخول الجولة الثانية للانتخابات، أى بنزع الدستورية عن تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية الذى وضعه على عجل مجلس الشعب ذاته.
صدور الحكمين، وفى توقيت واحد، له دلالته السياسية.. أحكام المحكمة الدستورية لا تصدر بهذه السرعة عادة.. وإذا كانت دواعى صدور حكم شفيق قبل إجراء الانتخابات مفهومة، فما هو الداعى للمبادرة بإصدار حكم حل المجلس بعد أسابيع من الطعن فيه؟.. فى عام 1984 تم الطعن فى دستورية المجلس لكن الحكم لم يصدر سوى فى عام 1987، أما الطعن فى عام 1978 فلم يصدر فيه حكم إلاّ عام 1990.. تقديرى أن المقصود من ذلك هو امتصاص الغضب المؤكد بعد حكم شفيق.. وهذا ما حدث على ما أعتقد، لأننا إذا نحيّنا الإخوان والمتعاطفين معهم جانباً، فالأرجح أن عموم المصريين استقبلوا قرار حل مجلس الشعب بارتياح، وربما بابتهاج ملحوظ.
صحيح أن البرلمان كان أول خطوة لنا على طريق الديمقراطية بعد الثورة، وصحيح أننا نحن الذين انتخبناه فى انتخابات يصعب وصفها بأنها كانت مزورة، إلاّ أنه يصعب فى الوقت ذاته أن نتجاهل عدة حقائق.
1- أن العملية الديمقراطية كانت تقتضى مساراً مختلفاً تماماً يبدأ بالدستور أولاً.
2- أنه لم يكن هناك قبل الانتخابات وقت كاف لقيام أحزاب سياسية جديدة وفرصة لهذه الأحزاب أن تعزز وجودها.
3- أن الانتخابات جرت فى أجواء سياسية متوترة تلازمت مع مجزرة محمد محمود التى شغلت شباب الثورة، وربما عموم الناس، عن أى شأن آخر.
4- وأن الإخوان المسلمين دون غيرهم خاضوا الانتخابات بماكينة تنظيمية جاهزة، وبموارد مالية معتبرة، وباستخدام واسع للمساجد فى الدعوة.
مع ذلك يمكن القول إن الشعب تقبّل فوز تيار الإسلام السياسى بـ70% من مقاعد المجلس ولو على مضض، بل إنه كان على استعداد ليجارى المجلس وربما ليسانده.. لعل الموقف الغالب عندئذ كان: لننتظر حتى نرى.. لكن ما رأيناه بعدئذ كان صادماً تماماً.. لاحظ الكل استعلاء مستفزاً فى مسلك الإخوان، ولم يكن بالمستطاع مداراة القصور المؤسف فى كفاءة النواب، وفشل المجلس فى سن قوانين تخلخل نظام مبارك، وسقط فى مواجهة حكومة الجنزورى التى ظل أسابيع يهدد بإسقاطها، وأثار المخاوف بطرح عدد من الأفكار المتطرفة.. على أن مكانة المجلس اهتزت إلى حد كبير بصده جماهير الثورة عندما ذهب شبابها ليستنجدوا به فحشد لهم ميليشيا تحول بينهم وبينه، وعندما رفع شعار السيادة للبرلمان لا للميدان.. ونالت من سمعة المجلس أيضاً زيارة الاستعطاف التى قام بها رئيسه «مع رئيس مجلس الشورى» إلى ملك السعودية، وسقطات «البلكيمى» و«ونيس» رغم أنها سقطات فردية فى النهاية، وخدشت صورته مفارقات مثل أداء اليمين «بما لا يخالف شرع الله»، ونوادر مثل رفع الأذان فى القاعة.. إلاّ أن الضربة القاصمة للثقة فى المجلس كانت مناوراته للاستحواذ على الجمعية التأسيسية للدستور.
فى المقابل، يدفع المجلس بأنه أدى دوره، بل نجده يتباهى بهذا الدور فى الكتيب الذى أصدره بعد 4 شهور من قيامه، الذى ضمّـنه القوانين التى أصدرها مثل «تثبيت العاملين المؤقتين، وزيادة تعويضات أسر الشهداء والمصابين، والثانوية العامة، وإلغاء إحالة المدنيين إلى القضاء العسكرى، والتأمين الصحى على المرأة المعيلة» وأنشطته المختلفة فى مجال الرقابة على مؤسسات الدولة، والـ83 جلسة التى عقدها والـ911 سؤالاً والـ8118 طلب إحاطة التى وجهها للحكومة..
لكن الذى تبقّى من هذا كله - أو رغم هذا كله - هو صور الجلسات التى ظلت تلح بها علينا قناة «صوت الشعب» التى تركت انطباعاً واحداً يصعب التغلب عليه، هو أن هذا البرلمان ليس برلمان الشعب.. هؤلاء لا يمثلوننا.. ليسوا نحن.
المؤكد أن تيار الإسلام السياسى فقد جانباً كبيراً من قاعدته الجماهيرية.. وقد تجلى ذلك فى انتخابات الرئاسة، عندما حاز مرشحه حوالى نصف الأصوات التى حصل عليها التيار فى الانتخابات البرلمانية.. والمؤكد أيضاً أن فقدان الثقة وصل إلى الجمهور العام خاصة جمهور الثورة.. ربما يرجع ذلك إلى أداء البرلمان على نحو خاص، لكنه قد يرجع أيضاً إلى أسباب سابقة على ذلك، لعل أهمها الشرخ الذى حدث عند وضع تعديلات الدستور والاستفتاء عليه عندما انقسمت مصر إلى «فسطاط» إسلامى و«فسطاط» مدنى، وكذلك تواطؤ تيار الإسلام السياسى مع المجلس العسكرى، وتنكره لشباب الثورة.
الخلاصة أنه عندما أعلن حكم الدستورية لم يقابل الحكم بالاستنكار الذى يفترض أن يقابل به حل برلمان انتخبه الشعب بإرادته الحرة، بل لعل القوى الوطنية أحست أن هذا هو الجزاء العادل لخذلان الإخوان المسلمين لها.. كل هذا مفهوم، لكنه مؤسف.. حقيقة الأمر أننا نواجه انقلاباً على الديمقراطية وليس انقلاباً على الإخوان.. المجلس العسكرى تلاعب بالثورة منذ تولى السلطة وكاد يفرغها من مضمونها واختلس 16 شهراً من عمر مصر، وها نحن نبدأ من جديد وكأننا فى 24 يناير 2011، وربما فى ظروف سياسية أكثر تعقيداً.. الدستور غائب، والبرلمان منحل، والتشريع فى يد العسكر، والجند المدججون بسلطة الضبطية القضائية فى الشوارع يفتشون اليوم فى جيوب المارة وربما يفتشون فى ضمائرهم غداً.. والأنكى من هذا وذاك أن الشعب منهك وقوى الثورة متعبة والقيادات السياسية فتتتها المناورات والصراعات.. أما الرئيس الذى سيتولى السلطة غداً فهو آخر رقم يعتد به فى المعادلة.. ليس مهماً إذا كان الفائز مرسى أم شفيق.. المجلس العسكرى لديه من الخبرة ما يمكّنه من التعامل مع أى من الطرفين، ومن السلطة ما يعينه على ردعهما، وعموم الناس لم يعد لديهم رصيد من الثقة يمنحونه لأى منهما ولا الأمل فى أن يلبى أحدهما مطالبهم بعد أن انهار طموحهم فى العدالة والحرية والعيش الكريم.
وضع مزر، نعم، لكننا لا نملك ترف الانزلاق إلى اليأس.. القوى الوطنية مطالبة الآن بالالتحام فى صيغة جديدة لتحمى الثورة وتناضل ضد رعاة الانقلاب، وهى قادرة رغم الظلمة على أن تضىء شمعة.. كان من كان الرئيس الذى سيعلن اسمه غداً، لن يستطيع رد الزمن إلى الوراء أو بعث الموتى.. مصر انطلقت فى جنباتها روح جديدة يوم 25 يناير لن تخمد أبداً.