في ذكرى معركة اليرموك
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] تمكنت الجيوش الإسلامية بعد معركة أجنادين التي وقعت أحداثها في 27 من جمادى الأولى سنة 13هـ الموافق 30 من آب عام 643م من أن تتابع مسيرتها الظافرة، وأن تخرج من نصر إلى نصر حتى بسطت يدها على أجزاء كبيرة من بلاد الشام ضمت: ( بصرى- بعلبك- حمص- دمشق- البلقاء- الأردن- وأجزاء من فلسطـــــــين ) .
ولم يكن أمام هرقل امبراطور الروم سوى الإحتشاد لمعركة فاصلة بعد أن تداعت أجزاء غالية من دولته أمام فتوحات المسلمين، فبدأ يجهز لمعركة تعيد له هيبته ويسترد بها ما اقطتع من دولته ، وتجمعت أعداد هائلة من جنوده ومن يقدر على حمل السلاح، وأخذت تتقدم من إنطاكيا - حيث يقيم- إلى جنوبي الشام.
كانت القوات الإسلامية بعد فتح حمص عام 14هـ/ 635م تتوزع في أماكن مختلفة؛ فأبو عبيدة بن الجراح في حمص، وخالد بن الوليد في دمشق، وشرحبيل بن حسنة في الأردن، وعمرو بن العاص في فلسطين، فلما وصلت أنباء استعدادات الروم إلى أبي عبيدة جمع القادة يشاورهم ويستطلع أمرهم، وانتهى الحوار بينهم إلى ما يلي:
1- انسحاب القوات الإسلامية إلى مكان قريب من بلاد الحجاز.
2- اجتماع الجيوش كلها في جيش واحد.
3- إرسال رسول إلى المدينة يطلب المدد من الخليفة عمر بن الخطاب.
وقبل أن يتحرك أبو عبيدة بن الجراح دعا حبيب بن مسلمة- عامله على الخراج- وقال له:
(( اردد على القوم الذين صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذناه منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذا لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئا، وقل لهم: نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم لأننا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم))
فلما أصبح الصباح أمر أبو عبيدة قواته بالرحيل من حمص إلى دمشق، وقام حبيب بن مسلمة برد الجزية إلى أهل حمص، وبلغهم كلام القائد، فقالوا:
(( ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، والله لو كانوا هم ما ردوا علينا، بل غصبونا وأخذوا ماقدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعودكم أحب إلينا مما كنا فبه من الظلم والطغيان)).
بعد أن أخلى المسلمون مدينة حمص، جاءت قوات الروم، ودخلت حمص، ثم تحركت جنوبا خلال وادي البقاع إلى بعلبك، ولم تتجه إلى دمشق- حيث يقيم المسلمون- وإنما اتجهت إلى الجنوب.
رأى المسلمون الذين كانوا يراقبون تحركات جيوش الروم حركة إلتفاف لحصار المسلمين وقطع خط الرجعة عليهم، فاجتمع أبو عبيدة بقادته يتباحثون في الأمر، فاتفقوا على الخروج من دمشق إلى الجابية، وهناك ينضم جيش عمرو بن العاص الرابض في فلسطين إليهم، وبالوقت نفسه ينتظرون المدد من الخليفة عمر بن الخطاب.
تقدمت مجموعات من جيش الروم إلى نهر الأردن باتجاه المسلمين بالجابية، وخشي المسلمين أن يحاصر المسلمين إنطاكيا، فيقطعوا خطوط إمداداتهم، ويحولوا بينهم وبين منطقة شمال الأردن والبلقاء التي تربطهم بالحجاز؛ ولهذا قررت الجيوش الإسلامية الإنسحاب من الجابية إلى اليرموك.
تولى خالد بن الوليد القيادة العامة للجيش بتنازل كريم من أبي عبيدة الذي كان له السلطة العامة على الجيش بالشام، وكان خالد بن الوليد من أعظم الناس بلاء وأعظمهم بركة وأيمنهم نقيبة.
بدأ خالد بن الوليد تنظيم قواته التي كانت تبلغ 46 ألف مقاتل، وقسم الجيش إلى كتائب تضم ما بين 600-1000 مقاتل، وتنقسم الكتيبة إلى أجزاء عشرية؛ فهناك العريف الذي يقود 10 من الرجال، وآمر الأعشار الذي يقود 10 عرفاء، وقائد الكتيبة الذي يقود 10 من أمراء الأعشار( 1000) رجل.
ويجمع المؤرخون على أن أول من استحدث تنظيم الجيوش على هذا النحو هو خالد بن الوليد، وعدوا عمله فتحا عسكريا؛ فقد اختار رجال الكتيبة الواحدة من أصل قبيلة واحدة، وجعل على كل كتيبة قائدا منهم ممن عرفوه بالشجاعة والإقدام، ثم جمع الكتائب وجعل منها ميمنة وميسرة وقلبا، وكان على رأس كتائب القلب أبو عبيدة ومعه المهاجرون والأنصار، وعلى كتائب الميمنة عمرو بن العاص يساعده شرحبيل بن حسنة، وعلى كتائب الميسرة يزيد بن أبي سفيان.
وبلغت هذه الكتائب 36 كتيبة بن المشاة، وعشر كتائب من الخيالة؛ 4 منها في الخلف، و2 في الطليعة، ووزعت الباقية على جانبي الميمنة والميسرة.
أما جيش الروم فكان يضم نحو 200 ألف مقاتل، يقودهم( ماهان)، وقسم جيشه إلى المقدمة تضم جموع العرب المتنصرة وعلى رأسها( جبلة بن الأيهم)، وميمنة على رأسها( قورين)، وميسرة على رأسها( ابن قناط)، وفي القلب( الديرجان).
وخرج جيش الروم إلى المسلمين في يوم ذي ضباب، وصف جنوده 20 صفا، ثم زحف إلى المسلمين مثل الليل والسيل كما يقول الرواة في وصف هذا الجيش الرهيب.
دعا أحد قادة الروم رجلا من نصارى العرب وقال له: ادخل في معسكر هذا القوم، فانظر ما هديهم وما أعمالهم وماذا يصنعون، ثم ائتنيى فأخبرني بما رأيت. وخرج الرجل حتى دخل معسكر المسلمين فلم يستنكروه لأنه كان رجلا من العرب؛ لسانه عربي ووجهه عربي، فمكث معسكرهم ليلة حتى أصبح، فأقام عامة يومه، ثم رجع إلى القائد الرومي، فقال له:
جئتك من عند قوم يأكلون الليل كله، يصومون ويصلون النهار، يأمرون بالمعرف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل وفرسان بالنها، لو يسرق ملكهم لقطعوا يده، ولو زنا لرجموه، لأنهم يفضلون الحق، ويتبعونه على هواهم وبإرادتهم))
ولما انتهى الرجل العربي من كلامه، قال القائد الرومي
لئن كان هؤلاء القوم كما تزعم وكما ذكرت، لبطن الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم
وفب فجر يوم الإثنين ( 5 رجب 15هـ/ 12 أغسطس 636 م) أصبحت نفوش المسلمين طيبة بقتال الروم، وصدورهم منشرحة للقائهم، وخرجوا بالنظام الذي وضعه القائد العام يحملون راياتهم.
وسار أبو عبيدة في المسلمين يحثهم على الصبر والثبات، ويقول لهم
((يا عباد الله؛ انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين؛ لصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر))
زحفت صفوف الروم الجرارة من مكانها إلى المسلمين، لهم دوي كدوي الرعد، وربطوا بعضهم بالسلاسل حتى لا يفروا، ورفعوا صلبانهم، وأتى معهم الأساقفة والرهبان والبطاركة. وحين رأى خالد بن الوليد إقبالهم على هذا النحو كالسيل، وضع خطته أن يثبت المسلمون أمام هذه الهجمة الجارفة، حتى تنكسر وتتصدع صفوف الروم، ثم يبدأ هو بالهجوم المضاد.
كان خالد بن الوليد رابط الجأش وثابت الجنان وهو يرى هذه الجموع المتلاحقة كالسيل، لم ترهبه كثرتهم، وقد سمع جنديا مسلما قد انخلع قلبه لما رأى منظر الروم يقول: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فانزعج خالد بن الوليد من هذا القول وقال: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، هل تخوفني بالروم؟
تلاحم الفريقان، وشد الروم على ميمنة المسلمين حتى انكشفت، وفعلوا كذلك بالميسرة، وثبت القلب، ولم يتكشف لهم، وكان أبو عبيدة وراء ظهرهم يشد من أزرهم، وأبلى المسلمون بلاء حسنا، وثبت بعضهم كالجبال الراسخة، وضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة وتلبية النداء، وقاتلت النساء أحسن قتال.
تحمل المسلمون هذا الهجوم الكاسح؛ إذا اهتز صف عاد والتام ورجع إلى القتال، حتى إذا جاءت اللحظة التي انتظرها القائد النابغة خالد بن الوليد صاح في القوم: يا أهل الإسلام، لم يبق عند القوم من الجلد والقتال والقوة إلا ما قد رأيتم، فالشدة.. الشدة.. فوالذي نفسي بيده ليعطينكم الله النصر عليهم الساعة.
وزحف خالد بجنوده الذين لم يقاتلوا- وكان يدخرهم لتلك اللحظة الحاسمة- فانقضوا على الروم الذين أنعكهم التعب، واختلت صفوفهم، وكانت فرسان الروم قد نفذت إلى معسكر المسلمينفي الخلف، فلما قام خالد بهجمته المضادة من القلب حال بين مشاة الروم وفرسانهم الذين فوجئوا بهذه الهجمة المضادة، فلم يشتركوا في القتال، ولما رأى الميلمين خيل الروم وهي ترب، أفسحوا لها الطريق ودعوها تغادر ساحة القتال.
انهار الروم تماما، وتملكهم الفزع والهلع، فتزاحموا وركب بعضهم بعضا وهم يتقهقرون أمام المسلمينالذين يتبعونهم؛ حتى انتهوا إلى مكان يشرف على هاوية تحتهم، فأخذوا يتساقطون فيها وهم لا يبصرون ما تحت أرجلهم، وكان الليل قد أقبل والضباب يملأ المكان، فكان آخرهم لا يعلم ما يلقى أولهم، وبلغ الساقطون في هذه الهاوية حوالي 80 ألفا، وسميت تلك الهاوية (( بالواقوصة )) لأن الروم قد وقصوا فيها، وقتل المسلمون من الروم في المعركة بعدما أدبروا 50 ألفا، خلاف من سقطوا في الهاوية.
ولما أصبح اليوم التالي، نظر المسلمون فلم يجدوا في الوادي أحدا من الروم، فظنوا أن الروم قد أعدو كمينا، فبعثوا خيلا لمعرفة الأمر، فإذا الرعاة يخبرونهم أنهم قد سقطوا في الهاوية أثناء تراجعهم، ومن بقي منهم قد غادر المكان ورحل.
كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثرا في حركة الفتح الإسلامي، فقد لقي أقوى جيوش العالم على يد المسلمين هزيمة قاسية وفقد زهرة جنده، وقد أدرك هرقل امبراطور الروم حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر المنطقة نهائيا وقلبه ينفطر حزنا، وهو يقول:
(( السلام عليك يا سوريا، سلاما لا لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومي بعد الآن إلا خائفا))
وقد ترتب على هذا الفت العظيم أن استقر المسلمون في بلاد الشام، واستكملوا فتح مدنها جميعا، ثم واصلوا مسيرة الفتح؛ فضموا مصر وبلاد الشمال الإفريقي.