أحفاد " صقر قريش " يسقطون
خلافة ولدت من خلافة .. ولئن كان أبو مسلم الخراساني ، وأبوعبيد الله السفاح قد استطاعا أن يقضيا على دولة الخلافة الأموية بدمشق سنة 132 هـ ،وأن يقتلا مروان بن محمد بحلوان مصر ، فيقتلا بقتله آخر خليفة أموي في المشرقالعربي، فإن هذه الخلافة المنهارة ، قد نبتت لها بذرة غريبة الشكل والتكوين في أرضتفصلها عنها بحار ، وآلاف الأميال .
وقد استطاع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ،أن يكون هو الفارس لهذه النبتة في الأندلس ، بعد مطاردة عنيفة تصلح أن تكون عملاروائيا عظيما..
ونجح " صقر قريش " العجيب في أن يهرب أمام الجنود العباسيين حتىوصل إلى فلسطين ، ومنها إلى مصر ، ثم إلى المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفيعن عيون العباسيين
لقد كان يحكم الأندلس آنذاك يوسف بن عبد الرحمن الفهري نيابة عنالعباسيين ، وقد حاول الفهري مقاومة تسلل وتجمعات عبدالرحمن الداخل ، لكنه هزمأمامه عندما التقيا سنة 139 هـ ، ودخل عبد الرحمن قرطبة ، فتأسس بذلك للأمويينالذين سقطوا في دمشق على يد العباسيين ، ملك جديد في الأندلس الإسلامية . لم تنجحكل محاولات العباسيين على عهد جعفر المنصور في استرداد الأندلس ، كما لم تنجحمحاولات ملك الصليبيين ( شارلمان ) في استغلال الظروف والقضاء على صقر قريش ،واستتب بذلك الأمر للفرع الأموي الذي تكون في الأندلس .
لقد عاش عبد الرحمن الداخل يبني ويقوي من دعائم دولته أكثر من ثلاثين سنة بعد ذلك.
فلما مات سنة 172 هـ كان قد ترك وراءه دولة قوية البنيان توارثهاأبناؤه من بعده .. تولاها هشام ابنه ، ثم عبد الرحمن الثاني ، إلى أن وصل الأمرإلى عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر ، الذي اعتبر عهده قمة ما وصلت إليه الأندلس الأموية من ازدهار وتقدم .
وقد دام حكم الناصر هذا نصف قرن من الزمان . نعمت الأندلس فيهبخير فترات حياتها في ظلال الإسلام ، وطلبت ود الدولة المماليك النصرانية المحيطةبها ، وأصبحت قرطبة ، والمدن الأندلسية الأخرى ، كعبة العلوم ، ومقصد طلاب العلم،وعواصم الثقافة العالمية الراقية ..
وفي سنة 350 هـ مات عبد الرحمن الناصر هذا ، فتربع على عرش الأندلسمن بعده ولده الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، ثم حفيده هشام الضعيف الذي تسلط عليهالحجاب وأبرز هؤلاء الحجاب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر ، الذي حكم باسمالأمويين بمعونة أم الخليفة " صبح " وتمكن من تحويل الخلافة لنفسه ولأبنائه مدةقصيرة ، مكونا خلالها الدولة المنسوبة إليه ، والمسماة بالدولة العامرية .
ثم عادت أمور الأمويين إليهم فترات قصيرة قلقة ، إلى أن قضي عليهم قضاء أخيرا في الأندلس سنة 422 هـ ، وعلى أنقاضهم قامت مجموعة دويلات هزيلة فيالأندلس عرف عهدها بعهد ملوك الطوائف ، الذي كان من أكثر عهود المسلمين في الأندلستفككا وضعفا وانحدارا نحو هاوية السقوط .
لقد قضى على الأمويين في الأندلس عاملان بارزان - أولهما : أن هؤلاء الأمويين لم يفهموا طبيعة التكوين الأندلسي ، أو فهموه ولم يقوموا بما تتطلبه طبيعته ، وأبرز سمات هذا التكوين ، وجود النصارى في ترقب دائم لأية ثغرة ينفذون منها ، وتباين الأجناس التي تعيش على أرضهم وتستظل برايتهم ، لا يجمعها إلا أقوىوشيجة في التاريخ وهي الإسلام .
ولم يكن هناك من حل حضاري لمواجهة طبيعة هذاالتكوين إلا تعميق " الإسلامية " وتجديدها بين الحين والحين ، بحركات جهادمستمرة ضد المماليك النصرانية المتحفزة .. ، وفي الوقت نفسه توقف النصارى عند حدودهم وتجعلهم في موقف الدفاع لاالهجوم .
والعامل الثاني البارز كذلك ، هو ترك بعض هؤلاء الخلفاء الأمورلحُجَّابهم أو نسائهم ، مما مكن لرجل كالمنصور بن أبي عامر سرقة الخلافة دون جهد.
ومن حقائق التاريخ التي نستفيدها من الوعي به وبقوانينه ، أن الدولة التي لا تفهم طبيعة تكوينها ، وتعمل على إيجاد حل دائم ملائم لهذه الوضعية ، تكونمعرضة للزوال .. وهذا هو الأمر الذي آلت إليه أمور بني أمية في الأندلس بعدحياة دامت قريبا من ثلاثة قرون .