التيارات الفكرية في بلاد الشام ودورها في مواجهة الحروب الصليبية
الباحث:
د / فيصل بجاش علي حميد
الدرجة العلمية:
دكتوراه
الجامعة:
دمشق
الكلية:
الآداب
القسم:
التاريخ
بلد الدراسة:
سوريا
لغة الدراسة:
العربية
تاريخ الإقرار:
2007
نوع الدراسة:
رسالة جامعية
المقدمة:
يدور موضوع هذه الأطروحة حول التيارات الفكرية في بلاد الشام ودورها في مواجهة الحروب الصليبية خلال المدة الزمنية من (491ﻫ/1095م) والذي يشكل تاريخ أول حملة صليبية على بلاد الشام إلى (جمادى الأول690ﻫ / 1291م) تاريخ رحيل آخر جندي صليبي عن بلاد الشام.
لقد وجد الباحث في نفسه ميلاً كبيراً للكتابة في المواضيع الفكرية منذ أن قرر مواصلة الدراسات العليا، ودفعه هذا الميل للكتابة في موضوع:« تطور مصطلح شيخ الإسلام في دولتي الأيوبيين والمماليك البحرية » الذي قدمه لنيل درجة الماجستير من قسم التاريخ جامعة بغداد. حيث ارتبط هذا العنوان بشكل مباشر ببلاد الشام , وبشكل غير مباشر بالحروب الصليبية، وقد خلق العمل في هذا الموضوع آفاقاً جديدةً، الأمر الذي عزز لدى الباحث الرغبة في المواصلة في هذا الحقل سواءً الجغرافي المتمثل ببلاد الشام أو التاريخي المتمثل بمرحلة الحروب الصليبية. وبعد مناقشة مستفيضة مع عدد من الأساتذة المختصين، وبصفة خاصة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الشجاع رئيس قسم التاريخ جامعة صنعاء، خلصت الفكرة للكتابة عن موضوع التيارات الفكرية في بلاد الشام ودورها في مواجهة الحروب الصليبية.
إن سعادة الباحث بتبلور الفكرة التي أوشكت أن تتحقق. قد رافقته سعادةً أخرى تحققت بالفعل عند موافقة جامعة صنعاء على إبتعاثه إلى جامعة دمشق، لتكون الحاضنة لهذا الموضوع. ذلك أن جامعة دمشق بعراقة اسمها، وعظمة أساتذتها ومكانتهم العلمية العالمية.قد جعلت من الدراسة فيها والانتماء إليها حلم كل باحث عربي.
وعند حصول الباحث على الموافقة المبدئية من جامعة دمشق، تقدم بمسودة خطة حول الموضوع إلى الاستاذ الموسوعي الكبير الدكتور سهيل زكار الذي بارك العنوان وتكرم بالموافقة على الإشراف عليه، وأخذ من فوره بيد الباحث ليخطا معاً أساساته ويضعا أعمدته وأركانه.
إن الباحث وهو يخط السطور السالفة قد ذكر عرضاً، أن هناك آفاقاً جديدة عززت لديه الرغبة في المواصلة في هذا الحقل، وخلقت الأسباب الكامنة وراء اختيار الباحث للكتابة في هذا الموضوع.
إن أهم الأسباب المتعلقة باختيار الباحث للكتابة في موضوع:« التيارات الفكرية ودورها في مواجهة الحروب الصليبية »، تتمثل بما يلي:
أولاً: أسباب اختيار الحروب الصليبية:
أن الحروب الصليبية شكلت عنواناً عريضاً للعلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب الأوربي، مازالت كثير من تفاصيله مستمرة حتى يومنا هذا، الأمر الذي يجعل منها مخزاناً للكثير من الدروس والعبر، يؤدي بحثها إلى رفع الوعي لدى الأمة لتكون قادرة على مواجهة الكثير من المؤامرات.
ثانياً: أسباب اختيار بلاد الشام:
إن اهتمام الباحث بدراسة الحروب الصليبية، جعل من اهتمامه بدراسة بلاد الشام أمراً حتمياً، كونها كانت المسرح الفعلي لإحداث هذه الحروب. لكن هذا لم يكن كل شئ فبلاد الشام تحتل مكانة خاصة لدى الباحث، هي جزء من تلك المكانة التي احتلتها في قلب التاريخ والحضارة الإنسانية، نظراً لموقعها الجغرافي إلهام الذي جعلها حارسةً لثغور الأمة، وجعل من أهلها مجاهدين إلى يوم القيامة، فضلاً عن احتضانها لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
ثالثاًً: أسباب اختيار التيارات الفكرية:
أنّ اهتمام الباحث بهذا الحقل لم يشكل سابقة يمكن الاستناد عليها في إثبات أهمية دور التيارات في قيادة المجتمع، وتوعيته بالأخطار المحدقة به، فالمفكرون يمثلون خلاصة معاناة المجتمع وتطلعاته، وهم أقرب إلى عامة الناس ويمثلون لسان حاله، ولذلك يأتي دورهم أكثر أهمية من دور القيادات الأخرى. من هذا المنطلق شعر الباحث بأهمية البحث عن دور التيارات الفكرية في بلاد الشام في قيادة المجتمع نحو التعامل مع قضية كالحرب الصليبية. كما أن دراسة بهذا الاتجاه لابد وأنها ستسهم في إلقاء الضوء على حقيقة المقاومة التي واجهتها الجيوش الصليبية، فإذا ـ كما تُقدم كثير من الدراسات المتخصصة في الحروب الصليبية ـ كان للأمراء والملوك والقيادات العسكرية دوراً أساسياً في مقاومة الحروب الصليبية، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، فإن القيادات الفكرية للمجتمع كانت تشكل الخطوط الخلفية لهذه القوى، والرافد الأساسي لها، وأي إخفاق منيت به الجيوش الإسلامية فإن للتيارات الفكرية،نصيباً كبيراً من أي لوم أو عتاب يمكن أن يوجه بشأن هذا الإخفاق.
يرجع موضوع الرسالة إلى مجال التاريخ الفكري في مرحلة الحروب الصليبية، وهو موضوع نال في عدد من جوانبه، اهتماماً من قبل عدد من الدارسين المحدثين ومتابعتهم، إلا أن هذه الدراسات، على الرغم من أهميتها، فإنها ركزت على متابعة جهود تيار فكري واحد على مدى المرحلة الحروب الصليبية، كتيار الشعراء، أو تيار الأدباء على سبيل المثال، أو اهتمت بدراسة شخصية معينة، دراسة فكرية بحتة، وبشكل مجتزأ، بعيداً عن الإطار التاريخي، وبعيداً عن التيار الفكري المرتبط بهذه الشخصية، كدراسة كتاب الجهاد للعز بن عبد السلام، أو تحقيق كتاب ضياء الدين المقدسي بعنوان: « فضائل الشام »، الأمر الذي أفقد الشخصية الفكرية أهميتها التاريخية، ودورها في مواجهة الحروب الصليبية، وبالتالي أصبح هذا النوع من الدراسات قاصراً عن تقديم تصور كامل للتيارات الفكرية في بلاد الشام ودورها في مواجهة الحروب الصليبية، وهذا القصور ـ كما سلف القول ـ جاء نتيجة المعالجة الجزئية التي هدف إليها كل باحث من أولئك الباحثين، ولا يعد ذلك قصوراً منهجياً .
أما موضوع الحروب الصليبية كحدث متكامل، فقد حظي بعدد كبير من الدراسات، لم يحظ به حدث تاريخي آخر([1])، الأمر الذي يعزز القول بأهمية هذه الحروب، وأهمية الدروس والعبر التي قدمتها.
لكن هذه الدراسات سواءً الحديث منها، أو حتى المعاصرة للحروب الصليبية، فإنها اهتمت بشكل أساسي بسرد الأحداث العسكرية، والاهتمام بإبراز دور القيادات العسكرية، دون الاهتمام بدور المفكرين وأهمية أعمالهم الفكرية وتأثيرها في الأحداث المحيطة بها، وإذا كان بعض المصنفين كأبي شامة في الروضتين قد أهتم بتضمين مصنفه الكثير من الأعمال الفكرية، لكنه لم يقدم تلك الأعمال إلا لكي يبرهن على أهمية الشخصية التي يتحدث عنها، والتي غالباً ما تكون شخصية نور الدين محمود أو شخصية صلاح الدين الأيوبي. والشيء ذاته يمكن قوله على مصنف التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية لابن الأثير.
ويبقى السؤال عن التيارات الفكرية في بلاد الشام؟ ما هي ؟ وما هو دورها في الحروب الصليبية؟ قائماً.
وللإجابة على هذا السؤال جاءت هذه الأطروحة في أربعة فصول، فضلاً عن المقدمة والخاتمة وقائمة المصادر والمراجع الخاصة بالأطروحة، وقد قام الباحث بتقسيم فصول الأطروحة وفق المراحل التاريخية التي مرت بها المقاومة، من حيث النشأة والتأسيس والقوة والضعف. بحيث كانت مرحلة صلاح الدين الأيوبي هي مرحلة النصر وفتح بيت المقدس، الهدف الأسمى للتيارات الفكرية، وتشكل هذه المرحلة قمة العطاء الفكري لهذه التيارات حول الجهاد وتحرير القدس. بينما شكلت المرحلة الأولى، أي مرحلة ما قبل صلاح الدين، التأسيس الفعلي لمشروع المقاومة والجهاد. وجاءت المرحلة الأخيرة أي ما بعد صلاح الدين لتشكل سلسلة من حالات الهزيمة والنصر التي مرت بها الأمة.
قدم الباحث في الفصل الأول تمهيداً عن أوضاع بلاد الشام قُبيل الحروب الصليبية، وقدم من خلاله تعريفاً ببلاد الشام وتحديداً لموقعها، ثم قدم عرضاً موجزاً لأهم العناصر العربية والأجنبية التي استوطنت بلاد الشام، وأسهمت بتشكيل المجتمع الشامي قُبيل الحروب الصليبية، كما شمل هذا العرض نبذة عن الامتداد الفاطمي إلى بلاد الشام، وكذلك الامتداد السلجوقي إليه، والأتابكيات التي توالدت عنه.
من ناحية أخرى تضمن هذا الفصل عرضاُ موجزاً عن المقاومة الإسلامية ومواجهتها للإمبراطورية البيزنطية في محاولاتها التوسعية في بلاد الشام قُبيل الحروب الصليبية، حيث تركزت المقاومة في الدولة الحمدانية في حلب، والدولة الفاطمية، ثم السلاجقة الذين حققوا نصراً كبيراً في منازكرد سنة(463ﻫ/1071م) على الدولة البيزنطية. وعمل الباحث على تقويم هذا الدور من حيث كونه جهاداً ودفاعاً عن الأمة، أم دفاعاً عن وجود كيانات خاصة، وكذلك من حيث نجاح أو إخفاق هذا الدور في تأسيس نواة للمقاومة الإسلامية.
إن وجود هذا الفصل التمهيدي شيء ضروري لأن دور التيارات الفكرية لم يقتصر على مرحلة الحروب الصليبية، كما أن الحروب الصليبية بمفهومها العام والحملات الغربية على بلاد الشام لم تقتصر على المرحلة المعروفة بالحروب الصليبية بين السنوات(491 ـ 690ﻫ / 1095 ـ 1291م )، بل كانت قبل هذه المرحلة، كما أنها استمرت بعد ذلك، وما يجري هذه الأيام من تدخلات في شؤون العالم الإسلامي، والعالم العربي على وجه الخصوص، ما هو إلا وجه من أوجه تلك الحرب. كما أنه بدون الرجوع إلى هذه الخلفية تبقى خصوصيات الموضوع غير معروفة، ولا تساعد على إعطاء الصورة الصحيحة والواضحة لـه في المرحلة قيد الدراسة.
ويغطي الفصل الثاني التيارات الفكرية ودورها في مواجهة الحروب الصليبية في مرحلة ما قبل صلاح الدين الأيوبي، إذ شكلت العواصم العربية الثلاث؛ الموصل ثم حلب ثم دمشق، مراكز المقاومة في هذه المرحلة، بدأت المقاومة خلالها على شكل تصدي لمحاولات الصليبيين وطموحاتهم الرامية إلى التوجه نحو الموصل ومنها إلى المشرق الإسلامي، ثم تطورت بعد ذلك إلى أن تأسست للمقاومة قاعدة صلبة في حلب ثم دمشق، أصبحت قادرة على تحويل الصراع مع الصليبيين من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم.
جاء هذا الفصل في خمسة مباحث:
تناول المبحث الأول القيادات العسكرية والسياسية ودورها في التصدي للصليبيين، والذي بدء بدور حكام الموصل من قِبل السلاجقة بالتصدي للمحاولات الصليبية للتوجه شرقاً،وكان من أهم هذه المحاولات تلك التي توجهت في ( محرم 505ﻫ/ تموز 1111م) وبناءً على أوامر السلطان السلجوقي محمد بن ملك شاه، وبتوجيهـات من الخليفة العباسي المستظهـر بالله([2]) (487ـ512ﻫ/ 1094ـ 1118م)، حيث يعود الفضل في تحريك هذه الحملة إلى رجال الفكر والتجارة في دمشق الذين استطاعوا الضغط على الخلافة واستنهاضها وحثها على الجهاد ومقاومة الصليبيين. ثم دور عماد الدين في فتح الرها سنة (539ﻫ/1144م ) . لكن المبحث دار حول شخصية نور الدين محمود باعتباره ليس فقط شخصية عسكرية وإنما أيضاً شخصية فكرية كبيرة استطاع أن يؤسس لمشروع جهادي كبير، تم من خلاله فتح بيت المقدس، وتحرير كل بلاد الشام. وكان نور الدين يعي تماماً أن أهداف مشروعه لن تتحقق إلا بالوحدة الكاملة بين بلاد الشام ومصر، ولذلك عمل على ضم مصر إلى حظيرة المقاومة مستغلاً ضعفها أمام الصراعات الداخلية والتحديات الخارجية.
أما المبحث الثاني: فقد تحدث فيه الباحث عن بدء اليقظة الفكرية لدى الفقهاء في هذه المرحلة وذلك من خلال حديثه عن دور كلً من أبي طاهر السلمي (ت: 500ﻫ/1107م) في كتابه: « الجهاد »، الذي نادى وحث فيه على الجهاد، ثم محدث الشام ابن عساكر(499-571ﻫ/1105-1175م ) في كتابه: « أربعون حديثاً في الحث على الجهاد ».
تحدث الباحث في المبحث الثالث عن دور التيارات الفكرية في الجهاد من خلال التصنيف في فضائل البلدان، هذا المجال الذي رافق مرحلة الحروب الصليبية، وقدم المصنفون فيه مادة ثرية من الحديث النبوي إستهدفت إبراز فضائل الشام عموماً وبيت المقدس على وجه الخصوص، وذلك لغرض التذكير بأهمية ومكانة هذه البلدان في العقيدة الإسلامية، الأمر الذي يترتب عليه أن تحتل المكانة نفسها في قلوب المؤمنين، وبالتالي يخلق لدى المسلمين من التعلق بها، و الرغبة بالتضحية من أجلها.وعلى كل حال فإن ظهور هذا النوع من الكتب المصنفة في هذه المرحلة دليلاً على حضور العامل الديني، كما أن في إستهداف القدس للتصنيف في فضائله دليلٌ آخر على حضور هذا العامل([3]) .
ولتوضيح هذا الدور عمل الباحث على إستعراض دور كل من ابن عساكر(499-571ﻫ/1105-1175م) ـ أو الداعي الأكبر كما يسميه المؤرخ الفرنسي (سيفان SIVAN)([4]) ـ في حديثه عن فضائل الشام، وفضائل دمشق على الخصوص، وذلك من خلال كتابه الموسوعي الكبير: « تاريخ دمشق »، حيث خصص الجزء الأول للحدث عن هذه الفضائل. ثم دور الإمام الحافظ أبي سعد عبد الكريم السمعاني،(ت:ربيع الأول 562 ﻫ / 1177م) في كتابه:« فضائل الشام » ، حيث قدم فيه مادة كبيرة من الحديث الشريف إستهدف من خلالها إبراز فضائل الشام.
وتحدث الباحث في المبحث الرابع عن دور رجال الفكر من الشعراء، ومشاركتهم، إلى جانب التيارات الفكرية الأخرى في دفع المقاومة إلى الأمام في إتجاه مواجهة الصليبيين، حيث قدم الباحث عرضاً موجزاً لأهم أغراض شعر الجهاد في هذه المرحلة، قد م خلالها نماذج أو مختارات للقصائد التي شكلت الصيحة الأولى، كقصيدة الشاعر ابن الخياط، والتنوخي، والأبيوردي. ثم تحدث الباحث بشئ من التفصيل عن جهود أهم شاعرين في مرحلة ما قبل صلاح الدين وهما كل من: الشاعر ابن منير والشاعر ابن القيسراني، اللذين رافقا مسيرة عماد الدين زنكي ثم مسيرة نور الدين محمود وقدما عدد كبير من القصائد بمناسبات مختلفة، وظلا كذلك حتى وفاتهما سنة (549ﻫ/1154م).
وفي المبحث الخامس استعرض الباحث دور تيار المفكرين من الأدباء في مواجهة الحروب الصليبية، حيث كان للأدب دور كبير في هذه المرحلة من خلال إعطائه صورة واضحة عن حالة المجتمع، وانقسم دور الأدباء في هذه المرحلة إلى قسمين، الأول تمثل بالأدب الرسمي الذي كان أصحابه من المتنفذين والمقربين للحاكم، واهتموا بإرسال الرسائل إلى الأقطار المختلفة، لغرض زف البشرى بالنصر، أو إبلاغ الخلافة في بغداد عن تطور معين في سير عملية الجهاد، أو لغرض التحريض أو الإستنجاد، وغيرها من الأهداف.
أما الصنف الثاني فهو الأدب غير الرسمي وجاء على هيئة تصنيف أدبي أهتم المصنف فيها بقضايا متعلقة بالصليبيين، وكشف الستار عن ما خفي من أحوالهم. وقد اختار الباحث شخصية أسامة بن منقذ، كأنموذج ممثل لهذا الدور من خلال كتابه الإعتبار.
أما الفصل الثالث: فيشكل المرحلة الثانية من مراحل الحروب الصليبية، وهي مرحلة النصر، حيث تم فيها تحرير القدس وعدد من المدن والقلاع التي كانت تحت الإحتلال الصليبي، وشكلت دمشق والقاهرة أهم مراكز المقاومة في هذه المرحلة،كما شكل صلاح الدين الشخصية المحورية، إذ بموته بدأت مرحلة أخرى مختلفة تماماً عن مرحلة صلاح الدين وبصفة أساسية من حيث المواجهة مع الصليبيين.
تم تقسيم الفصل الثالث أيضاً إلى خمسة مباحث: خُصص المبحث الأول للحديث عن شخصية صلاح الدين، وتقويم دوره الجهادي، استعرض الباحث فيه عدداً من الروايات المتعارضة حول شخصية صلاح الدين، من حيث كونه باحثاً عن ملك أم رجل جهاد، وحاول الباحث عن طريق مقارنة هذه النصوص أن يجلي بعض اللبس عن هذه الشخصية، وتوضيح دورها في الجهاد والمقاومة.
أما المبحث الثاني فقد تناول فيه الباحث دور التيارات الفكرية من الفقهاء في مواجهة الحروب الصليبية في هذه المرحلة، وذلك من خلال دراسة دور القاضي أبو المحاسن يوسف بن شداد من خلال كتابه:« فضائل الجهاد » حيث قدم ابن شداد كتاباً فقهياً شاملاً، حث فيه على الجهاد وبين كل ما يتعلق فيه من القضايا الفقهية، من النية والرباط وإعداد العدة، والأعذار المتاحة، وكذلك بين فضل الشهادة، والجزاء الذي يناله الشهداء في الدار الآخرة.
أما المبحث الثالث فقد تحدث فيه الباحث عن دور التيارات الفكرية في مواجهة الحروب الصليبية في هذه المرحلة من خلال التصنيف في كتب فضائل البلدان، حيث ركزوا من خلال الكتب والمصنفات التي أهتمت بهذا المجال على إبراز فضائل بيت المقدس، وذلك إحتفاءً بفتحها على يد صلاح الدين الأيوبي في(رجب583ﻫ/أيلول1187م)، وخوفاً من سقوطها مرة ثانية بيد الصليبين، وخاصة بيد الحملة الصليبية الثالثة (583-584ﻫ/1187-1188م)، وظهر كثير من المصنفين حول القدس،وقد أخذ الباحث بالدراسة والتحليل جهود عبد الرحمن بن الجوزي كأنموذج لهذه التيارات، وقد تحدث الباحث عن دور ابن الجوزي في مواجهة الحروب الصليبية من خلال كتابيه: «فضائل القدس »و:« تاريخ بيت المقدس» حيث قدم فيهما مادة أهتم من خلالها بإبراز مكانة القدس من الوجهة التاريخية، فضلاً عن الوجهة الدينية.
وقدم الباحث في المبحث الرابع مادة عن دور التيارات الفكرية من شعراء هذه المرحلة في مواجهة الحروب الصليبية، إذ وقف الشعراء صفاً واحداً إلى جانب المقاومة، وإلى جانب صلاح الدين، بإستثناء الشاعر ابن عنين، الذي هجا صلاح الدين بقصيدة في محاولة للإساءة إليه والنيل من مكانته.
ومن أهم شعراء هذه المرحلة كلٌ من: الشاعر العراقي سبط ابن التعاويذي، والشاعر المصري أحمد بن مماتي، والشاعر الموصلي علم الدين الشاتاني، والشاعر الرشيد النابلسي، والشاعر الدمشقي نشؤ الدولة أحمد بن نقادة، والشاعر وحيش الأسدي، وغيرهم كثير. وحرص هؤلاء الشعراء على متابعة المقاومة بقيادة صلاح الدين الأيوبي في كل وقائعها مع الصليبيين، وعملوا على مؤازرتها من خلال هذه الوقائع، عن طريق مدح صلاح الدين ومدح الجيوش الإسلامية المنتصرة، ووصف القلاع الصليبية الشامخة التي استطاع المسلمون أن يسقطوها،كذلك عملوا على التخفيف على صلاح الدين والمجاهدين من شأن الهزيمة التي تعرضوا لها في الرملة سنة (573ﻫ/ 1177م) .
وجاء المبحث الخامس ليغطي دور التيارات الفكرية من الأدباء في مواجهة الحروب الصليبية في هذه المرحلة، حيث عمل الأدباء على تسجيل الوقائع أولاً بأول بإسلوب رفيع مؤثر وإرسالها إلى مختلف البلدان الإسلامية، حيث استطاعت هذه الرسائل أن تربط بين الحدث وبين جميع المسلمين، وبذلك استطاعت أن تضمن هذه الرسائل مؤازرة جميع المسلمين للمجاهدين في بلاد الشام، حيث ضمنت في الحد الأدنى المؤازرة بالدعاء. وقد إنتخب الباحث رجلين من أشهر رجال الفكر حينئذ هما كل من القاضي الفاضل، والعماد الكاتب، الذِّين أكثرا من كتابة الرسائل، حيث كتب العماد سبعين كتاب بشارة، فقط في فتح القدس، حسب قوله([5]) . أما عن دور هذا التيار فيكفي دليلاً على أهميته قول صلاح الدين الأيوبي: «ما فتحت البلاد بالعساكر إنما فتحتها بكلام الفاضل »([6])، كذلك جاء دور الوهراني وإسهامه، من خلال كتابه: « جليس كل ظريف ». ليصب في الإتجاه نفسه ـ أي خدمة قضية الجهاد ـ حيث قدم مجموعة من الرسائل تمجد صلاح الدين ووالده نجم الدين وعمه أسد الدين، وكأنه يريد أن يدعو المسلمين للإلتفاف حولهم. كما قدم الوهراني أيضاً مجموعة من الرسائل إستهدفت نقد عدد من الشخصيات في الدولة الأيوبية.
وغطى الفصل الرابع والأخير، مرحلة ما بعد صلاح الدين، وتختلف هذه المرحلة كثيراً عن المرحلتين السالفتين، من حيث المواجهة مع الصليبيين، حيث شكلت هذه المرحلة مجموعة من المراحل المختلفة من حيث القوة والضعف، والجهاد والتخاذل عنه، والوحدة والفرقة، كما أن مرحلة ما بعد صلاح الدين قد تعاقب عليها دولتان الأولى أيوبية من ابناء صلاح الدين، لمدة قصيرةـ ثم أبناء أخيه العادل الذين حكموا حتى سقوط الدولة الأيوبية سنة (648ﻫ/1250م)، أما الثانية فهي دولة المماليك البحرية. واتصفت هذه المرحلة بخاصية لم توجد في المرحلتين السالفتين وهي كثرة الخيانات والتآمر مع الصليبيين ضد المسلمين، لدرجة أن القدس قد تم بيعها أكثر من مرة للصليبيين مقابل تحقيق مكاسب هزيلة لأمير مسلم ضد أخيه أو أحد أبناء عمومته، وفي خضم هذه الأحداث المتباينة برز دور التيارات الفكرية لتدفع بالمقاومة إلى الأمام كلما تعثرت.
وقسم الباحث هذا الفصل إلى ستة مباحث على النحو التالي:
المبحث الأول: إستعرض فيه الباحث الجانب السياسي في هذه المرحلة، وقدم تقويماً لدور السلاطين والأمراء سواءً من الأيوبيين أو المماليك في حركة المقاومة، ومواجهة الحروب الصليبية.
المبحث الثاني: بين فيه الباحث دور التيارات الفكرية من الفقهاء في مواجهة الحروب الصليبية في هذه المرحلة، وقد اختار الباحث دور شخصية العز بن عبد السلام(ت:660ﻫ / 1261م) من خلال كتابه:« أحكام الجهاد وفضائله ».كأنموذج لدور هذا التيار في هذه المرحلة.
المبحث الثالث: تحدث فيه الباحث عن دور التيارات الفكرية في مواجهة الحروب الصليبية من خلال التصنيف في كتب فضائل البلدان، حيث إستمر التصنيف في هذه المرحلة في فضائل الشام وبيت المقدس، بهدف إستنهاض المسلمين للدفاع عنها، ضد محاولات الصليبيين لإحتلالها، ثم محاولات المغول بعد وأثناء ذلك. وقد اختار الباحث شخصيتين من المهتمين في التصنيف في هذا المجال هما الإمام الحافظ ضياء الدين المقدسي: (579-643ﻫ/1183-1245م ) من خلال كتابه:« فضائل بيت المقدس »، والحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي(705ـ744ﻫ/1306-1344م) من خلال كتابه:« فضائل الشام ». وقدما كلاهما مادة وفيرة عن القدس والشام وأهميتهما.
المبحث الرابع: تحدث الباحث فيه عن دور تيار الشعراء في مواجهة الحروب الصليبية، حيث عمل الشعراء على دعوة المسلمين وعلى رأسهم السلاطين والأمراء إلى الجهاد، كما عملوا على الإشادة بالإنتصارات التي تحققت على أيديهم، ومن أهم شعراء هذه المرحلة: الشاعر ابن النبيه، والشاعر عبد المحسن الأمير الحلبي، والشاعر البهاء زهير، والشاعر ابن سناء الملك، والشاعر جمال الدين بن مطروح، والشاعر جمال الدين بن الخشاب، والشاعر شهاب الدين محمود، وغيرهم كثير، وقد استخدم الشعراء مختلف أساليب الشعر من مدح وهجاء ورثاء ووصف وغير ذلك، للتعبير عما يجيش في صدورهم من الرغبة في الجهاد، ودفع المسلمين نحو هذا الجهاد.
المبحث الخامس: هدف إلى ايضاح دور التيارات الفكرية من الأدباء في مواجهة الحروب الصليبية، حيث عمل الأدباء وغيرهم على إستخدام الرسائل الأدبية الرسمية في الحث على الجهاد، كما ظهرت في هذه المرحلة رسائل هدف أصحابها إلى الدفاع عن ممتلكات المسلمين التي عادت إليهم بعد رحيل الصليبيين عنها، لكنها وقعت نهباً للأمراء والسلاطين، وعملت هذه الرسائل على الدفاع عن هؤلاء المسلمين. ومن هؤلاء المفكرين محي الدين النووي (ت:676ﻫ / 1277م) الذي بعث برسالة إلى السلطان الظاهر بيبرس ونائبه عز الدين ايدمر حول بعض أملاك المسلمين.
المبحث السادس: غطى دور شخصية سبط ابن الجوزي في مواجهة الحروب الصليبية، ومع أن سبط ابن الجوزي لم يقدم عملاً فكرياً كتلك الأعمال التي قدمها غيره كمصنفات الفضائل، وكتب فضائل الجهاد، أو القصائد الشعرية الجهادية والرسائل الأدبية، إلا أنه قدم الكثير في مجال الوعظ والفتيا، وقد سعى الباحث من خلال هذا المبحث إلى استعراض بعض أعمال سبط ابن الجوزي في هذا الإتجاه وبيان أثرها في مقاومة الحروب الصليبية.
أما فيما يتعلق بالصعوبات التي واجهت الباحث خلال إنجازه هذه الأطروحة ، فهي كثيرة، و يأتي في مقدمتها:
حجم الموضوع وتفرعاته، والتي جاءت من إنتمائه إلى حقل التاريخ والفكر في آن واحد، فقد وجد الباحث نفسه أمام موضوع واسع ، ويحتاج في سبيل الإلمام به إلى القراءة والبحث في فروع كثيرة ككتب التاريخ ، والفقه، والحديث، والشعر ،والأدب، وغيرها من الكتب المتعلقة بموضوع البحث.
________________________________________
Abstract:
This Thesis Revolve Around The Subject of Intellectual Streams in Al-Sham Region and Their Roles in Countering The Crusader Wars During The Period of Time From (1095/491) Which Constitute The Date of First Crusader Attack on Al-Sham Region,to(1291/690) Which is The Date of Departure of The Last Crusader Soldier From Al-Sham Region.
An Interesting in This Subject by The Researcher Araisd From His Belief of The Importance of The Crusader Wars Stage From The Prospective of The Relationships Between The Islamic East and The Europian West,Which Make Them as an Inventory of Indtructions and Lessons.These Instructions and Lessons Lead to Increasing The Awareness Level of our Nation to be able to Countering a great deal of Plots,However The Researcher Interesting in The Subject Make The Studying of Al-Sham Region as Definitive Thing by Considering That it Constituted The actual Playhouse of The Events of these Wars.
This Thesis aimed at Knowing The Intellectual Streams Roles in Al-Sham Region in a society Leadership to Countering Crusader Wars and to Make it More Aware of Risks Besetting it,by Considering That The Intellectors Constitute The Extract of The Society Sufferances and Hopes, So They are The Most Near for General Puplic and Represent their Situation Tab,So that They have most important role in society leadership than others.
The Thesis consists of four Chapters determined dependino on The historical Stages which The Resistance passed in according to it's Araising,Establishment,Strongness,and Weakness.In this respect Salah-Aldeen Stage was The Intermediate Stage (The victory and Bait-Almaqdes Conquest Stage) which considered as the supreme target of Intellectual streams;Whereas the first stage(pre-salah-aldeen stage) constitute the stage of actual Establishment of Al-Gehad and the resistance project;The last stage (post-Salah-Aldeen stage) was came to constitute Chain of Victory and Defeat events The nation passed in.
The First Chapter Presented an Introduction about Al-Sham Region conditions near befor Crusader wars where it presented defination about Al-Sham Region and it's site identification,and summariezed presentation for the most important Arabic and Foreign elements settled Al-Sham Region and contributed in constituting Al-Sham society near befor The crusader wars,also The presintation include Scrap about both Al-Fatemy and Al-Salhoqi Dimention in Al-Sham Region,and Al-Atabikiat which generated from Al-Saljoqi dimention.
The First chapter include also summarized exposing about The islamic Resistance against Byzantine Empire in it's expanding efforts inAl-Sham Region near befor crusader wars.
The Existance of the first chapter is an important thing because the role of intellectual streams did'nt limited to crusader wars stage,but it was Appeared befor this stage and had continued after it,and what happening now of foreign intervention in Islamic World's affairs is one aspect of that war aspects;also without returning to this Background,the specialities of The subject will remain unknown and that will not aids in giving clear and true picture about The subject in the stage in question. The Second chapter covered The intellectual Streams and it's role in countering Crusader wars in pre-salah-aldeen Stage where the Three Arabic Capitals(Damascus,Aleppo,and Al-Mausel) constituted the Resistance centers in that stage.The resistance started during it in the forms of setting out to Crusaders trying to going tward Al-Mausel city and then to gobbe The Islamic East.The resistance was developed after that untel it had hard Groundwork in Aleppo and then in Damascus when the resistance therefore became able to transfer the fight with Crusaders from Pleading to Offensive.
The Third chapter covered the second Stage of Crusader wars,which is The victory stage,during it the Libralization of Al-Quds city with a number of other cities and castles was done(These cities and Castles were under Crusader Occupation).Salah-Aldeen represented a Polar Personality for this stage as by his decease started other stage differented enough with Salah-Aldeen stage especially from the standpoint of the confrontation with Crusaders.
The fourth chapter,which is The final chapter of The thesis, covered post-Salah-Aldeen stage,this stage was so different from it's antecedent stages erom the standpoint of Conerontation with Crusaders.This stage involve within it many stages of Strongness and weakness,Jihad and non Jihad, and Unity and Disunity; However post-Salah-Aldeen stage exprienced Succession of Two States,the first state was Ayobia,for short period of time,the second state was The navy Mamalik state.This stage caractrized by the Trait of so Treason and Conspirancy with Crusaders against The Moslims so that Al-Quds was sold more than one time for The crusaders in the return of inconsiderable Winnings for moslim emeer against his Brother or one of his Cater-cousins. In The Meantime of these events the role of Intellectual streams taken place in Promoting the Resistance and Pushing it to The eront wherever it Stumbled.
________________________________________
([1]) ينظر عن هذه الدراسات ـ على سبيل المثال:
ـ زكار، سهيل، الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية (دمشق: دار الفكر،1416ﻫ/ 1995م ) . حيث ضمت هذه الموسوعة عدد من أهم المصادر عن الحروب الصليبية، التي حققها وترجمها وقدم لها الدكتور سهيل زكار.
ـ عوض، محمد مؤنس أحمد، فصول ببليوغرافية في تاريخ الحروب الصليبية، ط1(القاهرة:عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية،1996م) ،ضمت هذه الببليغرافية عدد كبير من عناوين الدراسات الحديثة، عن الحروب الصليبية، بلغات مختلفة كالعربية والأنجليزية والفرنسية والأرمينية والعبرية وغيرها.
ـ المحبشي، عبد القادر مصطفى، الخزعلي، كفاح كاظم، دليل الرسائل التاريخية للماجستير والدكتوراه في الجامعات العربية، ط1 (طرابلس: مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإطالي،1989م) ص25-98.
ـ سيد، هاشم فرحات، وآخرون، دليل الرسائل الجامعية (التي أجازتها كلية الآداب ـ جامعة القاهرة منذ إنشائها حتى نهاية مايو 1996 ) (القاهرة: كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1996) .
([2])ابن الأثير: محمد بن محمد بن عبد الواحد الشيباني (555-630ﻫ/1159-1233م)، الكامل في التاريخ، تح: أبي الفداء عبد الله القاضي ،ط2 ( 10أجزاء, بيروت: دار الكتب العلمية،1415هـ /1995م)، ج8 ص261.
(1) EMMANUEL SIVAN, L’ ISLAM ET LA GROISADE, Ideologie et Propagande dans les Reactions Musulmanes aux Croisades (PARIS:LIBRIE D’AMERIQUE ET D’ORIENT,1968) , P63-65.
(1) SIVAN,L’ ISLAM ET LA GROISADE p63-65.
([5]) الروضتين، ج3ص 79.
([6])ابن العماد الحنبلي : عبد الحي بن احمد العكري الدمشقي (1032-1089ﻫ/ 1623 -1678م) شذرات الذهب في أخبار من ذهب ، ط2 ( 8 مجلدات، بيروت : دار المسيرة، 1391هـ /1979م )،ج2، ص327.