:: أم القـرى ::
بقلم : بسّام جرار
جاء في الآية 92 من سورة الأنعام: " وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه، ولتنذر أم القرى ومن حولها...". وجاء في الآية 7 من سورة الشورى: " وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أمّ القرى ومن حولها... " واضح أنّ أم القرى هنا هي مكة. وقد يقال إنّ المقصود بذلك أنها العاصمة بمفهومنا المعاصر. وإذا علمنا بأنّ القرآن الكريم قد نزل إلى البشرية جمعاء، أصبح من المحتمل أن يكون المقصود بمن حولها: مجموع الناس. وقد سبق أن بيّنا في مقام آخر أنّ القرآن الكريم يجعل من مكة البؤرة والمركز، والمكان الذي ينسب إليه، ويقاس عليه، غيره من الأمكنة؛ فالمسجد الأقصى هو الأقصى بالنسبة إلى مكة، أمّا القصي فهو المسجد النبوي. وعليه يصح أن يكون المقصود بمن حولها: مجموع البشريّة. وإذا كان هذا صحيحاً فما المقصود بأم القرى ؟
القَرْيُ: هو الجمع. ولما كان الناس يجتمعون في صيغة شعوب وقبائل، فقد سمّيت مجموعاتهم هذه قرى، وسمّيت كل مجموعة قرية. فالقرية إذن تعبر عن الاجتماع البشري. ولما كان هذا الاجتماع لا بد أن يكون في مكان، فصحّ أن يسمى مكان الاجتماع قرية. جاء في الآية 59 من سورة الكهف: " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا " : إنّ المقصود هنا أهل القرى، لأنّ القرى تطلق، كما قلنا، على الاجتماع البشري، وعلى مكان الاجتماع أيضاً. وعليه يحتمل أن يكون المقصود بأم القرى: أم الأمم. ومعلوم أنّ الأم هي الأصل الذي يصدر عنه الفرع. وهذا يقودنا إلى القول بأنّ مكة هي المكان الذي خرج منه الناس إلى بقاع الأرض المختلفة، أي أنّ مكة هي أول مكانٍ اجتمع فيه البشر، ومنه صدروا، وذلك بعد أن تكاثروا. وقد يعني هذا أنّ مكة هي أول نقطة التقاءٍ للبشريةِ بالأرض. ويبدو أنها كانت المكان الذي نزل فيه آدم، عليه السلام، أول ما نزل.
جاء في الآية 96 من سورة آل عمران: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ". إذا كان أول بيت وُضِع، ليتعبّد فيه الناس، هو المسجد الحرام في مكة، فإنّ ذلك يعني أنّه مُغرق في القدم، والأقرب أن يكون قد وضع للناس في فجر البشرية، لأنه بعيد في العقل أن يبقى الناس فترة طويلة من الزمن لا يجتمعون في مكان يجمعهم على عبادة الله، وعلى وجه الخصوص عندما نعلم بأنّ آدم، عليه السلام، كان نبياً، فهذا يعني أنّ البشرية قد بدأت مسيرتها في الأرض وهي تعرف الخالق وتعبده، ثم كانت الانحرافات بعد فترة من الزمن، فبعث الله سبحانه وتعالى نوحاً، عليه السلام، فكان أول رسول للناس.
فإن قيل إنّ قلة عدد الناس، في البداية، لا يحتم وجود مكان يجمعهم للعبادة، بل لا ضرورة لذلك. قلنا نعم هذا ممكن، ولكن إذا عرفنا أنّ مساحة الكعبة من الداخل لا يزيد كثيراً عن (80 متراً مربعاً ) وإذا أدخلنا ( الحِجر ) فقد لا تتجاوز (100متر مربع). وعليه فكم يمكن أن يكون عدد الذين يحتشدون في مثل هذه المساحة من أجل أداء العبادة ؟. ولا يتوقع أن تكون أول عبادة على صيغة طواف، وإلا فما معنى المساحة الداخلية، وما معنى أنه مسجد ؟ وقد سئل الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الصحيح، عن أول بيت وضع للناس فقال، عليه السلام: المسجد الحرام. قيل: ثم أي ؟ قال: المسجد الأقصى… ومعلوم أنّ المسجد الأقصى لا طواف عنده.
" إنّ أول بيت وُضِع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ". لفظة: (وُضع) تدل على أنّ الأمر كان بوحي سماوي، وتكليف ربّاني. أما لفظة: (بيت) فتدل على أنّ العبادة في البداية كانت في داخله. وأما لفظة: ( للناس) فتشير إلى أنّه وضع لجميع الناس. وإذا كانت مساحة البيت هي ما ذكرناه آنفا، فانّ هذا يشير إلى عدد الناس القليل، مما يدل على أنّه قد وضع في فجر البشرية، أما جملة: " للذي ببكة مباركاً" فلها مقام آخر، إن شاء الله تعالى؟ وأما جملة: " وهدى للعالمين " فتؤكد أنّه وضع لجميع البشر. وإذا كان صحيحاً ما توصلنا إليه، من أنّ مكة هي أول مكان أقام فيه البشر وجودهم الاجتماعي، أفلا يصبح فهمنا للأمور الآتية أكثر وضوحاً :
أولا: أنّ حج الناس كل الناس يجب أن يكون إلى مكة.
ثانيا: أن أذان إبراهيم، عليه السلام، بالحج كان من مكة، وإلى الناس في كل مكان، كما توحي الآيات الكريمة من سورة الحج.
ثالثا: أنّ فريضة الحج يُخاطب بها الناس، في حين أنّ أركان الإسلام الأخرى يُخاطب بها المؤمنون. وأنّ أعلى نسبة تكرار لكلمة الناس هي في سورة الناس، ثم سورة الحج.
رابعا: أنّ لباس الحاج يكون بسيطاً بحيث يلغي الفوارق، فيعود الناس كما كانوا في أول اجتماع لهم على الأرض، فيذكرهم ذلك بأخوتهم الإنسانيّة.