لماذا لا يستفيد العرب من التجربة الصينية؟
أ . د . علي الهيل Monday 09-01 -2012
الصين قارب عدد سكانها المليار والنصف أي زهاء خُمس سكان العالم، وعليه فإن لغتها (الماندرين) وهي لغة الغالبية العظمى من شعب الهان الصيني، هي الأولى في العالم وليست الإنجليزية أو الإسبانية أو الفرنسية كما يعتقد البعض. صحيح أن أكثر من نصف مليار صيني يعيشون على الكفاف بَيْدَ أنهم مستورون وقنوعون فالصين ليس فيها من هو فقير فقراً مدقعاً أو عند خط الفقر أو ما دونه.
إن تعاليم (كونْفيوشِيوس) الحكيم والفيلسوف الصيني العظيم ساهمت كثيراً في هذا الإتجاه وهو علّمَ الصينيين ما يشبه ما علَّمه رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين بعد (كونْفيوشِيوس) بمئات القرون أنه 'من بات ليلته آمنا في سربه معافىً في بدنه عنده قوت يومه فكأنه قد حيزت له الدنيا بحذافيرها'. إنها الأسلحة الرادعة ضد الطمع والجشع والإستيلاء على ما هو ليس لك. لأن كلا الرجلين ببساطة كان مرجعُهما الفطرة التي جبلَ الله البشر عليها. في هذا الطرح تكريس لما قاله (كارل ماركس) إن الإنسان الذي لديه أكثر من حاجته لا بد أن يكون لصا، مع تحفظنا على رأي (ماركس) وإن كان لا يخلو من أرضية من الواقع المعاش.
وفي الصين ما يناهز أكثر من عشرة ملايين من الجاليات الأجنبية ومن بينهم عرب وفلسطينيون خاصةً يعيشون في ظروف جيدة بشكل عام ومعظمهم يعملون في وظائف ماهرة وبالكاد لم نقرأ تقريرا واحدا للأمم المتحدة عن أن في الصين متسولين، كما هو الحال في معظم دول الرأسمال العالمية مع أن الأمم المتحـــدة مسيَّسة وتطلق الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها في النظام الرأسمالي غالباً المنظمات الأممية كحقوق الإنسان وغيرها على الصين لتشوه صورتها في العالم لاختلافها مع الصين في نهجها الإشتراكي الشيوعي، غير أن الأمم المتحدة رغم أنها مصادَرة في الغالب كما يلاحظ الكثيرون من قِبَلِ الغرب المادي لم تجد بُدا أو مندوحةً من نقل الواقع لأن الشمس كما يُقال لا يمكن تغطيتها بغربال.
الإكتفاء الذاتي الزراعي والغذائي الصيني والفائض منه للتصدير لا يرجع فقط إلى أن الأراضي الصينية الشاسعة في بلاد الصين الرئيسة خصبة وصالحة للزراعة وتنتج الرز والذرة بشكل رئيسي وهما الغذاء الرئيس لأهل الصيــــن ووافديها أو إلى أن الفلاح الصيني نشط ومواظب على فلاحة الأرض والإعتناء بها وإنما يُعزى السبب الأهم إلى السياسات الوطنية الرشيدة لحكومات الصين المتعاقبة منذ حكومة (الرئيس ماو) التي وعت ضرورة أن تُطعم شعبها من أرضها وتكسوهم من نسيجها كيما تقع البلاد تحت رحمة الأجنبي.
لم يخرج (جبران خليل جبران) عليه رحمة الله إذن عن الخط الصيني والتعاليم الدينية السماوية والفطرة الإنسانية عندما أطلق صيحته 'ويلٌ لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع'. فالصين لا تأكل إلا من أرضها ولا تلبس إلا من مصانعها. عندما تحقق أي أمة الأمن الغذائي كل أنواع الأمن الأخرى تتحقق تلقائيا في الغالب، والصين أكثر من أي دولة أخرى إستطاعت أن تحقق بجدارة الأمن الغذائي لشعبها. الكارثة الكبرى عندما تحتاج إلى الآخرين لكي تأكل.
فقد قال (أحمد بن بيلاَّ) يوماً على قناة (الجزيرة) كان الإستعمار الفرنسي يُعيب على الجزائريين أنهم لا يفقهون شيئاً سوى زراعة الأرض. فحتى هذا العيب الرائع لم يعد العرب يفقهونه فمعظم البلاد العربية تستورد غذاءها من الخارج لا سيما الدول الغنية التي أهملت معظمها الزراعة معتمدة على ريع النفط لاستيراد الغذاء وهي سياسة قصيرة النظر لاشك، في حين كان في الإمكان والوقت ليس متأخرا الآن إستثمار دخول النفط وريعه في إستصلاح الأراضي وتحقيق الإكتفاء الذاتي في الحد الأدنى من الغذاء.
في الثمانينات نجحت السعودية في زراعة القمح والإكتفاء الذاتي به وحتى تصديره وللأسف إنتشرت نظرية مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية ضغطت على السعودية لإيقاف المشروع، خشية كساد سوق القمح الأمريكي كما بدا حينها للمحللين.
ولأن الصين أحرزت قدرا كبيرا من الإستقرار الزراعي والصناعي الذي غزا كل بلدان العالم بما فيها الدول الصناعية الغربية، أصبح إقتصادها الأسرع عالميا بعد ألمانيا وأحيانا يتصدر ألمانيا.
وأصبح للصين إحتياطي من العملات الأجنبية الصعبة يربو على التريليون، مما حدا ببعض مسؤولي منطقة اليورو الأوروبية إلى طلب العون من الصين لإنقاذ (اليورو) المترنح تحت ضربات معظم دول منطقته المفلسة، مع أن دول الغرب قاطبة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية كثيراً ما عابت على الصين تمسكها بالشيوعية كعقيدة حكم وبالإشتراكية كنهج إقتصادي، وهي الآن ترى أن سياساتها هي الفاشلة لأن مصارفها وبنوكها أقرضت الناس لعقود طويلة مقابل فوائد مجحفة إلى أن جاء اليوم الذي لم يقدر الناس فيه على السداد فنشأت أزمة الرهن العقاري والأزمات المالية الأخرى المترتبة عليها وما تزال الأزمات تتفاقم ولا يكاد يلوح في الأفق ما يبشر بحلول ناجعة، وهو بالمناسبة ما تنبأ به (كارل ماركس). إنه فشل النظام الرأسمالي العالمي القائم على الإستغلال والربا والفكر المكيافيلي القائل بالغاية تبرر الوسيلة، بمعنى مثلاً ليس مهما كيف؟ ولكنَّ المهم أن تُصبح غنيا.
وإنه نجاح النهج الشيوعي في الحكم عندما يُنظر إلى الشيوعية على أنها شيوعية الغلة والأرض والثروة وهو ما طبقته إلى حد كبير الصين وهو كذلك مفهوم إسلامي وقالت به أيضاً الديانات السماوية الأخرى. وإنه نجاح الإشتراكية كنهج إقتصادي عندما يكون الناس شركاء في الماء والنار والكلأ، والصين أدركت ذلك مبكرا وطبقته بجدارة. مع أن كلا النهجين الشيوعي والإشتراكي فشلا في الإتحاد السوفيتي السابق لأنهما لم يُطبقا بشكل جيد يراعي العدالة والمساواة.