ولد الفنان توفيق النمري في مدينة الحصن عام ,1918 وقد توفي والده وهو طفل ، حيث عاش برعاية جدّه الشيخ رزق الله المنّاع النمري. وفي أحد الأيام زار جدَّه شيخُ قبيلةْ ، ورأى ذلك الطفل ، فسأل: من هذا الصبي؟ أجاب جده: إنه حفيدي. فقال الشيخ: وأنا سأمنحه اسمي ـ وكان اسم الشيخ فدعوس ، وقد سمي ذلك الطفل فدعوسَ ، وهو الإسم الأصلي للفنان توفيق النمري ـ وعندما التحق بمدرسة القريه (الحصن) ، ارتأى مدير المدرسه أن هذا الأسم يليق بشيخ كبير لا بطفل صغير ، وقام بتغيير اسمه إلى 'توفيق'. ومنذ ذلك اليوم ، أصبح اسمه 'توفيق النمري'.
ومنذ طفولته كانت ميوله الفنيه تظهر على شخصيته ، حيث كان يغني (بالخابية) التي هي جرّة ماء كبيره ، حيث يضع رأسه في داخلها ، ويبدأ بالغناء ، وكذلك بترتيل الكتاب المقدّس في الكنيسة ، حيث اعتاد ـ وهو طفل ـ الذهابَ مع جده إلى الكنيسة ، وحفظ العديد من الألحان الدينية. وكان لذلك أكبر الأثر في صقل مواهبه ، وصفاء روحه ، ونقاء سريرته. لهذا ، يعتبر جدّه المدرسة الأساسية التي تلقى منها الإيمان بالله ، وحُبَّ الوطن ، والفنَّ ، والعطاءَ. وكان ، كذلك ، يتردد إلى بعض أقاربه ، ممن كانوا يملكون المذياع ، ليستمع إلى أغاني محمد عبدالوهاب ، وكبار المطربين في تلك الحقبة. وكان يردد ما سمعه من أغان وألحان عند عودته إلى بيته ، أو في غرف الصف في المدرسة ، حيث كان يجد التشجيع من معلميه وزملائه الطلبة الذين يقدمونه في الحفلات المدرسية ، نهايةَ كل عام دراسي ، ليقلد غناء المطربين. وقد تأثر توفيق بالذائقة الفطرية لجده رزق الله النمري ، لا سيما أن الجد كان مولعاً بالشعر ، ويجيد العزف على الربابه. وواصل صقل موهبته بالغناء بالمدرسه والاحتفالات المدرسية ـ على قلتها ـ إلا أنه كان مشروع فنان كبير ، ووجد المساندة من المدرسين والطلاب ، وابتدأت موهبته تتبلور حيث كان للبيئة الأثر الكبير على كل أعماله الفنيه ، وقد اشتهر بأغاني التراث الشعبي والأغاني الغزلية ، وكانت الأغنية الوطنية على رأس اهتماماته ووجدانه.
بدأ توفيق النمري مهمّته ، في جمع التراث الفلكلوري الغنائي وتدوينه ، من مناطق الأردن كافة. وكان لعمله السابق في الجيش أثر كبير على تسهيل مهمّته ، لا سيما أنه جمع ، سابقاً ، شيئاً من هذا التراث ودوّنه. وكان لمتابعة رئيس الوزراء ، آنذاك ، الشهيد هزاع المجالي ، المباشرة ، وإصرار واهتمام ومتابعة مدير الإذاعه حينها ، الشهيد وصفي التل ، على تنفيذ المهمّة والدورُ الأكبر في تذليل الصعاب ، وحشد الإمكانات كافة لجمع التراث وتحديد ملامح اللون الأردني الأصيل في الفن والغناء.
كتب الفنان توفيق النمري بعض أغانيه ، ولحنها وأداها بنفسه. كما قدم له العديد من الشعراء كلماتْ جميلة قام بتلحينها وغنائها ، وكان يحرص ، دائماً ، على النوعية برغم تقديمه عدداً هائلاً من الأغنيات والألحان الجميلة. ونالت الأغنية الوطنية عنده حظاً وافراً يمثل تراثاً حقيقياً لها ، وللأغنية الأردنية والعربية على حد سواء.
وكان لجهود توفيق النمري ، مع مجموعة من الفنانين ، أن تخطوا حدود الأردن إلى الخارج عن طريق بث أعمالهم التراثية عبر وسائل الإعلام المختلفة ، أو عن طريق مجموعة الفرق المحلية الموسيقية ، والتي قامت بجولات فنية إلى معظم بلدان العالم. وهنا نذكر أنه سجّل ستة أغان لأذاعة دمشق عام :1955 "البنت الريفية" ، و"ناداني وناديته" ، و"بين الجناين" ، و"يا غزيل" ، و"على ضفافك يا بردى" ، وكذلك من خلال المشاركة في المؤتمرات والمهرجانات العربية والدولية ، ومن خلال ما غنى له مشاهير الغناء في الوطن العربي من مثل: وديع الصافي ("حسنك يا زين جنني وخلالي عقلي طاير" ، و"قلبي يهواها البنت النشمية") ، وسميرة توفيق ("أسمر خفيف الروح بلحظه رماني") ، وكروان دمشق ("والله لاتبع محبوبي" ، و"ربع الكفاف الحمر") ، وسعاد هاشم ("طيارة يما بتحوم") ، وهدى سلطان ("مشتاق لك يا رفيق الروح") ، وفؤاد حجازي ونصري شمس الدين ونجاح سلام وآخرون.
أغاني الفنان توفيق النمري منوّعة ، وفي المجالات كافة: فمن اللون العاطفي ، المعبّر ، المنتمي إلى البيئة وحكاياها وأمسياتها وعلاقاتها ، إلى اللون الحماسي التعبوي ، إلى الأغنية الوطنيّة المنوّعة.
وللمكان الأردني في أغنية توفيق النمري حضور لافت ، حيث لا يكاد يوجد مكان واحد لم يذكره توفيق النمري في أغنياته ، من الفحيص إلى ناعور إلى "بير الطيّ" الى نهر الأردن والأغوار ووادي السلط ، ما يذكرنا بشاعر الأردن الخالد "عرار" ، وارتباط شعره العضوي بالمكان ، ولكأن علاقة صوفية ، من الاتحاد والحلول ، نشأت بين المبدع والمكان. وربما لا يعلم كثيرون أن الفنان توفيق النمري هو من أصدقاء "عرار" ، وكان ـ في بداياته ـ يغني لـ "الندامى" ، روائع الطرب العربي ، مثل "يا جارة الوادي". وما زال الفنان توفيق يذكر تفاصيل من أمسيات الطرب والسمر في الحصن وإربد ، مع "عرار" وأصدقائه.
تعدّى دور الفنان توفيق النمري الغناء ، أو التدوين: فكان يكتب الكلمات ويقوم بتلحينها ، لنفسه ولغيره ، وزاد حجم إنتاجه الفني عن ألف أغنية ، منها حوالى 750 عملاً محفوظه في أرشيف الإذاعه ، ومنها ما صدح به صوته في أصقاع الدنيا. ولنا ، في تقديمه الأغنية الأردنية في كوريا الديموقراطية ، وحصوله على وسام من رئيسها ، وحصوله على عضوية الملحنين الفرنسيين ، خير دليل.
بقي أن نقول: مَن مًنا ، في عقده الثالث ، أو أكبر ، لا يطرب لسماع "ويلي ما أحلاها البنت الريفية"؟ من منا لا ينتشي لسماع "يابا الخير"؟ من منا لا يتمنى أن يكون جندياً في المعركة ، حين يسمع "مرحى لمدرعاتنا"؟ من منا لا يصاب بحالة عشق فوري حين يستمع لـ"ضمة ورد من جنينتنا" ، أو "حسنك يا زين"؟ من يستطيع أن يقاوم حالة الهيام المستبدّ لسماع "لوحي بطرف المنديل مشنشل برباع"؟ هذه الأغاني ، وغيرها ، تجاوز عمرها العقود الستة ، وما تزال تتألق في سماء الفن والطرب الأصيل ، في وقت أضحت فيه بعض الأغاني لا تعيش سوى أيام ـ إنْ لم نقل لحظات ، كلحظات اشتعال عود الثقاب ـ ما إن يشتعل حتى ينطفئ : لأن الأعمال الخالده هي مزيج من كلمات منتقاة مؤثرة متزنة ولحن جميل يحترم الأحاسيس ويسمو بها ومن صوت رائع منحه الله للكبار ، لا أغانيَ مكوناتها كلامّ ممجوجّ من شطحات حليقي الرؤوس وصرعاتهم ، والأخريات اللواتي اشبعننا نعيقاً وزعيقاً ، بحناجرهن ، وتقززاً من حركات أجسادهن التي تفتقد إلى ورقة التوت. وهنا نتمنى على فنانًنا الكبير توفيق النمري ، وهو الفني ، أيضاً ، الذي مارس هواية إصلاح الساعات ، أن يعيد ضبط الزمن وضبط الذوق كما كان في زمن العمالقة.
أمدّ الله في عمر شيخنا توفيق النمري ، ومتعه بالصحة والعافيه ، وأدامه منارة شامخة في سماء الفن والطرب الأصيل.