بسم الله الرحمن الرحيم
الأمانة والإنسان
أيها الإخوة الكرام ،
قال الله تعالى:
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ)
أنت أيها الإنسان علمت أو لم تعلم أكرم المخلوقات على الله ، أنت المخلوق الأول رتبة ، لأنك قبلت حمل الأمانة .
ما الأمانة ؟
الأمانة في رأي العلماء ، نفسك التي بين جنبيك ، هذه أمرها بيدك ، مصيرها إليك كُلفت حملها ، أي كُلفت أن تعرفها بربها ، كُلفت أن تحملها على طاعته ، كُلفت أن تزكيها كُلفت أن تأهلها للجنة ، كُلفت أن تسمو بها ، لذلك الذي يؤكد هذا المعنى
قال تعالى :
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10))
[سورة الشمس]
( قَدْ أَفْلَحَ ) ، الفلاح هو النجاح ، هو التفوق ، هو الفلاح ، هو تحقيق الهدف ، والإنسان يحب النجاح، والناجح سعيد جداً ، الناجح هو الذي يحقق الهدف ولتحقيق الهدف اعطاه مقومات النجاج .
مقومات حمل الأمانة:
1.الكون:
أعطاك الكون ، الدليل :
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)
[سورة الجاثية الآية : 13]
الكون مسخر للإنسان ، تسخير تعريف ، وتسخير تكريم ، تسخير التعريف يقتضي أن تؤمن به ، وتسخر التكريم يقتضي أن تشكره ، فإذا آمنت به وشكرته حققت الهدف من وجودك ،
قال تعالى :
(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ)
[سورة النساء الآية : 147]
فإذا شكرتم وآمنتم ، أو آمنتم وشكرتم فقد حققتم علة وجودكم ، وحققتم الغاية من وجودكم ، أما عامة الناس وهذا شيء مؤلم جداً فتغطيهم آية كريمة :
قال تعالى :
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)
[سورة الكهف]
2.العقل
أعطاك عقلاً ، العقل ميزان .
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7))
[سورة الرحمن]
هذا العقل إذا أعملته أعطاك النتائج ، تماماً : عندك بيت ثمنه خمسون مليونًا ، ودُفع لك ثمنه بالعملة الصعبة ، وفي الجيب الأيمن جهاز إلكتروني يكشف العملة المزورة ، وفي الجيب الأيسر فيها أرقام العملة المزورة ، في الجيب الأول جهاز إلكتروني ، وفي الثاني أرقام أوراق العملة المزورة ، وأنت قبضت ثمن هذا البيت بالعملة الصعبة ، لم تستخدم الجهاز الأول الإلكتروني ، ولم تدقق في أرقام العملة التي بجيبك، وكان المبلغ كله عملة مزورة ، من هو الخاسر ؟ أنت ، أنت السبب ، معك عقل باليمين ، ومعك منهج قرآني باليسار ، فلا عقلك استخدمت ، ولا القرآن الكريم استخدمت ، فشقي الإنسان .
الله عز وجل قال لك : افعل ولا تفعل ، تحب أنْ تحكم عقلك ، العقل ينطبق مع النقل ، لأن العقل مقياس أودعه الله فينا ، والنقل كلامه ، فمعك عقل لو أعملته بتجرد من دون انحياز ، من دون أسلوب تغطية ، تبرير ، تسويغ ، لهداك عقلك إلى الله عز وجل ، لأن الآيات التي تتحدث عن العقل ، وعن التفكر، وعن العلم تقترب من ألف آية ، أعطاك القرآن فيه الحلال والحرام .
فلذلك الشقاء بسبب جهل الإنسان ، وعدم استخدام العقل والنقل معاً ، والعقل والنقل متطابقان والحمد لله.
3.الفطرة
أعطاك فطرة ، لو أنك لم تعمل عقلك كما أنه لم تقرأ كتابك ، أعطاك بنية نفسية جبلة ، فطرة تكشف لك الخطأ ذاتياً .
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8))
[سورة الشمس]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( الحَلالَ بَيِّنٌ ، وَالحَرَامَ بَيِّنٌ )) .
[متفق عليه]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( والإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس )) .
[أخرجه البخاري ، و مسلم والترمذي عن النواس بن سمعان]
هل هناك إنسان يغش الحليب أمام الشاري ؟ يقول له : لحظة لأصب عليه الماء ، مستحيل ، بالفطرة تعلم أن هذا العمل غير صحيح أبداً .
فلذلك أعطاك كوناً ، أعطاك عقلاً ، أعطاك فطرة .
4.الشهوة
أعطاك شهوة هي ثمن الجنة ، ما أودع الله بالإنسان الشهوات إلا ليرقى بها مرتين ، مرة صابراً ، ومرة شاكراً إلى رب الأرض والسماوات ، هذا الميل نحو المال نحو المرأة ، نحو العلو في الأرض ، أودع فيك الشهوات ،
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
[سورة آل عمران الآية : 14]
أعطاك الشهوات لترقى بها ، وهي حيادية ، وما من شهوة أودعها الله فيك إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها ، فلا حرمان بالإسلام ، وما من شهوة أودعها الله فيك إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها.
لكن المحرمات ليست قيوداً لحريتك ، بل هي ضمان لسلامتك ، المحرمات تاماً كلوحة كتب عليها : حقل ألغام ممنوع التجاوز ، لا تشعر بحقد أبداً على من وضع اللوحة ، بل تشكره من أعماق أعماقك ، لأنه ضمن لك بهذه اللوحة سلامتك ، كما لو وضعت لوحة أمام تيار توتر عال : ” ممنوع الاقتراب خطر الموت ” ، اللوحة رحيمة ، اللوحة فيها علم ، فيها حكمة ، فيها رحمة ، فيها قيادة حكيمة للمواطنين ، ممنوع الاقتراب خطر الموت ، لذلك أودع فيك الشهوات لترقى بها صابراً ، أو شاكراً إلى رب الأرض والسماوات .
أعطاك كوناً سخره لك تسخير تعريف وتكريم ، رد فعل التعريف أن تؤمن ، ورد فعل التكريم أن تشكر ، أعطاك عقلاً كي تتأكد به من صحة النقل ، وكي تفهم به النقل ، دون أن تلغي النقل بعقلك ، العقل ليس حكماً على النقل ، ولكن من تأكد من صحة النقل قبل النقل ولفهم النقل بعد النقل ، أعطلك الفطرة تكشف لك الخطأ ذاتياً .
الآن في أرقى الطائرات ما فيها عدادات أبداً ، فيها لوحات عاتمة ، إذا حدث خلل يظهر على الشاشة ، أن خللاً في المكان الفلاني .
وأنت عندك شاشة ، حينما تخطئ تشعر أنك تخطئ ، وحينما تصيب تشعر أن مصيب ، لذلك متوافقة توافق تاماً مع منهج الله عز وجل ، سواء عليك أأطعت أمر الله عز وجل أم استجبت لنداء الفطرة ، الأمر سيان ، لأن منهج الله متوافق تماماً مع فطرتك ، فأي شيء أمرك الله به نفسك تتوق إلى تطبيقه دون أن تشعر أعطاك كوناً ، وعقلاً ، وفطرة وشهوة .
5.حرية الاختبار
أعطاك حرية ، أنت حر .
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)
[سورة الكهف الآية : 29]
(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)
[سورة الإنسان]
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)
[سورة البقرة الآية : 148]
ما لم تكن حراً لا يثمن عملك ، ما لم تكن حراً فلا يمكن أن ترقى إلى الله عز وجل ، أنت حر فيما كلفت به ، لكن الذي لست حراً فيه ما إن كنت ذكراً أو أنثى ، ومن أبوك وأمك ، وفي أي مكان ولدت ، وفي أي زمان ولدت ، هذه لمصلحتك ، ومحض خير لك ، وليس في إمكانك أبدع مما أعطاك .
إذاً : أعطاك حرية الاختيار ليثمن عملك ، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، أنت حر ، مخير .
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)
[سورة الأنعام]
هذه الآية أصل في أنك مخير ، وأنه لا يقول بالجبر إلا مشرك ، لا يقول في الجبر فيما كلفنا إلا مشرك .
إذاً : أعطاك كوناً ، وعقلاً ، وفطرة ، أعطاك شهوة ، أعطاك اختياراً .
6.المنهج الإلهي
أعطاك منهجاً ، لو أن الأمور التبست عليك ، هناك منهج ، الكتاب ، والسنة ، افعل ولا تفعل ، هذا المنهج قال عنه العلماء : الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع ، والشريعة عدل كلها ، والشريعة رحمة كلها ، والشريعة حكمة كلها ، والشريعة مصلحة كلها ، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة ، ومن العدل إلى الجور ، ومن الحكمة إلى خلافها ، ليست من الشريعة ، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل .
إذاً : نحن قد خلقنا ربنا ، ولأنه خلقنا أمرنا أن نعبده .
قال الله تعالى في القرآن الكريم:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ)
وقد ورد الأثر القدسي :
قال الله تعالى في الحديث القدسي:
(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد والسيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها )) .
[أخرجه الحكيم البيهقي عن أبي الدرداء]
والحمد الله رب العالمين
منقول عن : تفسير سورة الأعراف 07– 12/ 01 / 2007 ـ الدرس 6 – الآية : ـ 11 ـ ” قصة الخلق وسبب وجود الإنسان ” ـ لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .| المصدر