8/27/2005
المصدر:أ.د. بهجت صبري - رحمه الله
لعبت مدرسة النجاح النابلسية، دوراً أساسياً ومحورياً، في تنوير وتثوير وتوجيه المجتمع الفلسطيني والعربي، طوال عقود الانتداب البريطاني على فلسطين، وما كان هذا ليتم، إلا بجهود المسؤولين الأوائل الذين أحسنوا التأسيس والبناء، فأحسنوا المردود والعطاء.
فالدراسة هذه، إنما تهدف إلى تعريف الدارسين والمهتمين، بوثيقتين شكلتا مفصلاً تاريخياً بين مرحلتين في حالة التعليم الفلسطيني، فهما بهذا تشكلان العمود الفقري، لهذه المؤسسة التعليمية الرائدة، بحكم أن هذه الوثائق عملت على تنظيم وتنفيذ الأهداف والغايات المرجوة من تأسيس هذه المدرسة.
فالوثائق، محل الدراسة هذه هي: وثيقة التأسيس لعام 1918، وقانون المؤسسين لعام 1921، وقد وضعت هذه الوثائق من قبل الشخصيات الوطنية في مدينة نابلس، والمشهود لها بالتفاني في خدمة المصلحة العامة، وبدوافع سامية للرقي بالعلم والتعليم في البلاد.
ولما كانت الفترة الزمنية، التي تفصل بين هذه الوثائق، متقاربة نسبياً، فقد أدى هذا إلى تقاطع في مفاهيم هذه الوثائق ومضامينها، حيث لم يعد القارئ يميز بينها، ومن هنا فإن هذه الدراسة وضعت أمامها هدفاً ثانياً لتحقيقه، يتمثل في تفسير هذه الوثائق وتحليلها تحليلاً تاريخياً يساعد على الفهم، واستيعاب المقصود مما ورد في هذه الوثائق.
ومما لا شك فيه، أن دراسة هذه الوثائق، ستبرز، مكانة هذه المدرسة وأهميتها مقارنة بغيرها، كما أنها ستوضح الصفات والمزايا البارزة التي اتسمت بها هذه المدرسة، ويأتي في مقدمتها استمرارية وديمومة هذه المؤسسة، أمام التحديات الصعبة التي واجهتها، وواصلت مسيرتها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدم ورقي، وحتى أصبحت جامعة مستقلة، في وقت اختفت فيه عدة مدارس تأسست في مدن فلسطينية أخرى في نفس الفترة الزمنية.
وقبل الحديث عن هذه الوثائق بشيء من العمق والتحليل، لا بد من الوقوف على الخلفية التاريخية التي زامنت تأسيس هذه المؤسسة ورافقتها.
فمن المعروف، أن هذه المؤسسة قد مرت في محاولتين، قام بها وجهاء مدينة نابلس وأعيانها. خلال عقد من الزمن، وفي ظل ظروف سياسية متغيرة، شهدت اختفاء الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة العربية طوال أربعة قرون، وفي نفس الوقت برزت دول جديدة مثل فرنسا وبريطانيا أخضعت المنطقة العربية لمرحلة جديدة من الاستعمار والاحتلال، وكان ذلك نتيجة حتمية لإحداث الحرب العالمية الأولى 1914-1918.
كانت المحاولة الأولى لتأسيس مدرسة النجاح النابلسية، قد تمت أواخر الحكم العثماني للمنطقة العربية، وفي ظل أجواء جديدة، أفرزها قانون المعارف العمومي، الذي أصدرته الدولة العثمانية عام 1869م بهدف تنظيم حالة التعليم في البلاد، والتي كانت حتى قبل صدور القانون من مسؤولية الأهالي وإشرافهم وليس من مسؤولية الدولة، أما هذا القانون فقد ميز بين المدارس الحكومية والأهلية.
كانت هذه الأجواء الجديدة مناخاً مناسباً، لأبناء مدينة نابلس، ولغيرها من المدن الفلسطينية لتأسيس مدارس أهلية خاصة بهم، وقد نجح أبناء مدينة القدس في بناء مدرستين عام 1906م فكان ذلك دافعاً إضافياً لأبناء مدينة نابلس لتأسيس مدرسة خاصة بهم، ولتحقيق هذه الغاية تقدم نفر من أبناء مدينة نابلس الغيورين على المصلحة الوطنية، بطلب إلى المتصرف التركي (فتحي بك) للموافقة على فتح مدرسة ابتدائية في المدينة، إلا أن هذا المسؤول التركي، لم يتجاوب مع هذه الرغبة، بل رفض طلبهم هذا لأسباب غير معروفة.
إلا أن هذه الرغبة بقيت قائمة وحية في نفوس وعقول الغيورين من أبناء مدينة نابلس، إلى أن دخلت البلاد في أحداث الحرب العالمية الأولى، والتي أفرزت نتائج سياسية جديدة، منها اختفاء دول وبروز دول أخرى، وهذا ما رسمته اتفاقية سايكس بيكو بين الدول الاستعمارية التي برزت على الساحة، على حساب الدولة العثمانية.
في ظل هذه الظروف السياسية، جدد أبناء مدينة نابلس طلبهم إفتتاح مدرسة ابتدائية فتقدموا بطلب إلى سلطات الاحتلال البريطاني، التي احتلت البلاد عام 1917، وامتد الاحتلال إلى مدينة نابلس عندما سقطت للسيطرة البريطانية عام 1918م.
فكانت المحاولة الثانية أفضل من الأولى، لأن سلطات الاحتلال البريطاني تجاوبت مع طلب أبناء المدينة لتأسيس مدرسة لهم، وبهذا حقق أبناء المدينة رغبتهم التي طالت كثيراً.
ويبرز هنا سؤال كبير، أحاول الإجابة عليه، وهو لماذا رفضت السلطات العثمانية طلب تأسيس المدرسة، في حين وافقت السلطات البريطانية على ذلك؟
في تصوري، إن الإجابة على هذا السؤال، تكمن في الأوضاع السياسية التي كانت تمر بها الدولة العثمانية، أواخر فترة حكمها للمنطقة العربية، حيث بدأت تبرز في هذه الفترة التيارات والأفكار القومية، التي أخذت تهدد وجود وكيان الدولة العثمانية نفسها، لذا رأت هذه الدولة أن الحد من تأسيس المدارس، التي تعمل على نشر الوعي القومي والوطني، قد يساعد على استيعاب التيار القومي، أو المشاعر القومية التي بدأت بالانتشار والتصاعد من مكان لآخر.
ومن ناحية أخرى، إن الدولة العثمانية، خاصة بعد استيلاء الاتحاديين على الحكم، قد أخذت بسياسة التتريك، التي تتعارض تماماً مع سياسة التعامل مع القوميات وفق معتقداتهم ولغاتهم المختلفة.
أما لماذا استجابت الإدارة العسكرية البريطانية لطلب أبناء المدينة بتأسيس المدينة، فإن ذلك يعود إلى سياسة الدول الاستعمارية، التي تحاول استقطاب الشعوب المحكومة لها، ومحاولة كسب ودهم ومشاعرهم، كما أن ذلك يأتي ضمن سياسة الدول الاستعمارية التي عليها أن تعمل شيئاً جديداً، لإشعار هذه الشعوب بأن حكماً جديداً قد بدأ، وأن هذا الحكم يختلف عن السابق، حتى تحول مشاعر الشعوب المحكومة إلى جانبها عند مقارنتها للدول الحاكمة السابقة والجديدة.
وثيقة تأسيس المدرسة 1918:
لقد وضعت هذه الوثيقة من قبل الشخصيات الوطنية المعروفة في مدينة نابلس، للشروع في تأسيس المدرسة، بعد الحصول على الموافقة على ذلك من قبل الجهات المعنية، وقد نصت هذه الوثيقة بعد الصلاة والسلام على سيدنا محمد على ما يلي:
" أما بعد فلما كان العلم هو المادة التي بها قوام الأمم في المجتمعات، وحياة الشعوب في معترك هذه الحياة، وكان نصيب الأمة العربية منه في هذا الزمن قليلاً، لا يتناسب مع ذكاء أبنائها الفطري ومواهبهم السامية، فكر لفيف من النابلسيين ممن عرفوا بالوطنية والتفاني في خدمة المصلحة العامة، والسعي وراء ترقية العلم، وغرس بذور الأخلاق الفاضلة في نفوس الناشئة الجديدة، في تأسيس مدرسة وطنية حرة، تكون منبعثاً لأنواع العلوم المفيدة، ومغرساً للآداب العالية والتربية الصحيحة وقد قوى عزيمتهم على تأسيس المدرسة المذكورة، ما منيت به البلاد، في الزمن الفائت من التواء طرق التعليم في المدارس السابقة، وعدم حصول الفائدة المرجوة منها."
أما الشخصيات الوطنية التي كان لها فضل وضع هذه الوثيقة التاريخية منهم:
الحاج حسن حماد، ابراهيم القاسم عبد الهادي، الحاج قاسم كمال، كامل هاشم، ابراهيم هاشم، الطبيب حافظ كنعان، علاء الدين حلاوه، أديب مهيار، فارس السخن، الشيخ فهمي هاشم، جميل كمال، داوود طوقان.