الأماني عراض:
الأماني عِراض، والأحلام كثيرة، والعُمر محدود، ولا يَدري المرءُ متى يفاجئه الأجل المحتوم، وفي أيِّ أرض يموت.
ولا يَعلم كيف يُلاقِيه حتفُه، ويدنو منه حينه، ويودِّع الدنيا، ولله حِكم جليلة تَخْفى على العِباد، وليتصور الإنسانُ نفسه لو علم بالتحديد اليومَ والساعة والدقيقة التي تفارِق فيها رُوحُه جسدَه، وينتقل من دار الفناء إلى دار البقاء: أيَّ همٍّ يُصيبه؟ وأيَّ حياة نكدة مملوءة بالألَم والأحزان سيعيشها؟
♦ ذهب مالك بن الرَّيْب في صُحبة سعيد بن عثمان بن عفَّان حينما سار بجُنده في طريق فارس، حتى إذا كان ببعض المنازِل لَدغَتْ مالكًا أفعى، وحين أحسَّ بالموت يَسْري في أوصاله قال قصيدة وداعية مؤثِّرة، يقول فيها:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
بِجَنْبِ الْغَضَا أُزْجِي الْقِلاَصَ النَّوَاجِيَا
أَلَمْ تَرَنِي بِعْتُ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى
وَأَصْبَحْتُ فِي جَيْشِ ابْنِ عَفَّانَ غَازِيَا
لَعَمْرِي لَئِنْ غَالَتْ خُرَاسَانُ هَامَتِي
لَقَدْ كُنْتُ مِنْ نَأْيِي خُرَاسَانَ نَائِيَا
فَلِلَّهِ دَرِّي يَوْمَ أَتْرُكُ طَائِعًا
بَنِيَّ بِأَعْلَى الرَّقْمَتَيْنِ وَمَالِيَا
تَذَكَّرْتُ مَنْ يَبْكِي عَلَيَّ فَلَمْ أَجِدْ
سِوَى السَّيْفِ وَالرُّمْحِ الرُّدَيْنِيِّ بَاكِيَا
وَأَشْقَرَ خِنْذِيذٍ تُجَرُّ عِنَانُهُ
إِلَى الْمَاءِ لَمْ يَتْرُكْ لَهُ الدَّهْرُ سَاقِيَا
وَلَكِنْ بِأَطْرَافِ السُّمَيْنَةِ نِسْوَةٌ
عَزِيزٌ عَلَيْهِنَّ الْعَشِيَّةَ مَا بِيَا
فَقَدْ كُنْتُ عَطَّافًا إِذَا الْخَيْلُ أَدْبَرَتْ
سَرِيعًا لَدَى الْهَيْجَا إِلَى مَنْ دَعَانِيَا
وَقَدْ كُنْتُ مَحْمُودًا لَدَى الزَّادِ وَالْقِرَى
وَعَنْ شَتْميَ ابْنَ الْعَمِّ وَالْجَارَ وَانِيَا
وَقَدْ كُنْتُ صَبَّارًا عَلَى الْقِرْنِ فِي الْوَغَى
ثَقِيلاً عَلَى الْأَعْدَاءِ عَضْبًا لِسَانِيَا
وَطَوْرًا تَرَانِي فِي ظِلاَلٍ وَمَجْمَعٍ
وَطَوْرًا تَرَانِي وَالْعِتَاقُ رِكَابِيَا
وَطَوْرًا تَرَانِي فِي رَحًى مُسْتَدِيرَةٍ
تُخَرِّقُ أَطْرَافُ الرِّمَاحِ ثِيَابِيَا
وُقُوفًا عَلَى بِئْرِ الشَّبِيكِ فَأَسْمِعَا
بِهَا الْوَحْشَ وَالْبِيضَ الْحِسَانَ الرَّوَانِيَا
يَقُولُونَ: لاَ تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَنِي
وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلاَّ مَكَانِيَا
♦ قال الأصمعيُّ وغير واحد: لَمَّا ماتت النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي امرأة الفرزدق - وكانتْ قد أوصتْ أن يصلِّي عليها الحسنُ البصري - فشهدها أعيانُ أهل البصرة مع الحسن، والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيرها، فسار فقال الحسن للفرزدق: ماذا يقولُ الناس؟ قال: يقولون: شَهِد هذه الجنازةَ اليوم خيرُ الناس، يعنونك، وشرُّ الناس، يعنوني، فقال له: يا أبا فراس: لستُ أنا بخير الناس، ولستَ أنت بشرِّ الناس، ثم قال له الحسن: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادةُ ألاَّ إله إلا الله، منذ ثمانين سَنَة، فلمَّا أن صلَّى عليها الحسن مالوا إلى قبرها، فأنشأ الفرزدق يقول:
أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِي
أَشَدَّ مِنَ الْقَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا
إِذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ
عَنِيفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ الْفَرَزْدَقَا
لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلاَدِ دَارِمَ مَنْ مَشَى
إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلاَدَةِ أَزْرَقَا
يُسَاقُ إِلَى نَارِ الْجَحِيمِ مُسَرْبَلاً
سَرَابِيلَ قَطْرَانٍ لِبَاسًا مُخَرَّقَا
إِذَا شَرِبُوا فِيهَا الصَّدِيدَ رَأَيْتَهُمْ
يَذُوبُونَ مِنْ حَرِّ الصَّدِيدِ تَمَزُّقَا
قال: فبَكَى الحسن حتى بلَّ الثرى، ثم الْتزم الفرزدق، وقال: لقد كنتَ مِن أبغض الناس إليَّ، وإنك اليوم من أحبِّ الناس إليَّ.