بسم الله الرحمن الرحيم
"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم"
إن كل من تلا آيات القرآن الكريم أو سمعها وتدبرها يتضح له جلياً أنه جاء بالهدي الثابت بالبينات بحيث يحمل العقلاء علي أن يعوا ما تضمنته اياته. واشتملت عليه بيناته. فالقرآن الكريم ينهض بأولي الألباب إلي التبصر في أنوار آياته. ويدعو الحكماء إلي التفكر في أحكامه وحكمه وفي علومه ومعارفه. وفي معانيه ومفاهيمه. وفي أسراره وإعجازاته التي لا تنقضي ولا تنفد كلما امتدت العصور وتوالت القرون وتتابعت الدهور ويتبين ذلك من عدة وجوه:
الوجه الأول: أنزل الله تعالي القرآن الكريم ليعقله العقلاء ويتفهمه الحكماء قال سبحانه "إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون. وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم" 3. 4 الزخرف. يبين الله تعالي أن ما جاء به القرآن الكريم هو الحق المحكم والمعقول المبرم. ليس فيه مصادمة للعقول السليمة. بل إن تلك العقول السليمة لتتلقي ما جاء به القرآن العظيم بحسن القبول والتسليم له. كما أن العقلاء لا يستطيعون أن ينقضوا الحق الذي جاء به القرآن الكريم أو يردوه ويتضح ذلك من عدة جوانب.
الجانب الأول: لقد جاء هذا القرآن الكريم يهدي الناس إلي العقائد السليمة. والأعمال الشرعية الحكيمة والآداب والأخلاق الكريمة. فلو أنه جاء بما ينافي ويعارض عقلاء ا لمكلفين لبطلت الحكمة من إنزاله. وعاد الأمر عليه بالنقض لأنه حينئذ غير متقبل من عقلاء المكلفين فضلاً عن أنهم لن يعملوا بمقتضاه. ولكن الأمر الواقع هو أن الله تعالي بيّن في كتابه العزيز الأدلة المعقولة المحكمة ليتلقاها العقلاء بالقبول والتصديق. وليعملوا بمقتضاه سواء في ذلك الأدلة علي الأحكام الإيمانية الاعتقادية والأحكام الشرعية العملية.
الجانب الثاني: أن مورد التكاليف والخطابات الإلهية التي جاء بها القرآن الكريم هو العقل. فإذا فقد العقل ارتفع التكليف وفي ذلك يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث. عن النائم حتي يستيقظ. وعن الصبي حت يشب. وعن المعتوه حتي يعقل" رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم. وفي رواية للإمام أحمد: وعن المجنون المغلوب علي عقله حتي يبرأ. وهذا واضح في أن ما جاء به القرآن الكريم وكذلك السنة النبوية المطهرة هو المعقول بحيث يلزم العاقل المكلف أن يعمل بمقتضاه فلو أنه كان علي خلاف ما تقتضيه العقول السليمة لكان لزوم التكليف علي العاقل أشد وأثقل من لزومه علي المعتوه والصبي والمجنون والنائم. لأنه لا عقل لهؤلاء يحملهم علي التصديق بما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. أو عدم التصديق فإذا كان التكليف بما لا يعقل ساقطاً عن الذين لا عقل لهم لزم من باب أولي أن يكون ساقطاً عن العقلاء لأنهم حينئذ كلفوا بما تنافيه العقول وترده.
الجانب الثالث: لو جاء القرآن الكريم إلي الناس بما ليس بمعقول لردّه الكفار لأول مرة بحجة أنه غيرمعقول وأنه مخالف للعقول لأنهم كانوا في غاية الحرص علي ردّه ونقضه. ولكنهم لم يستطيعوا أن يقولوا ذلك لأنهم عقلوه وعرفوا أن ما جاء به هو الحق قال الله تعالي "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون""الأنعام 23" والمعني أنهم يعلمون علماً جازماً أنه الحق. ولكنهم يجحدون بعد علم ولا يعترفون عصبية وكبراً.
__________________