الحمد
لله ولي الصابرين، وخالق الناس أجمعين، اصطفى من الناس رسلاً فجعلهم قدوة
في الصبر والتسليم واليقين، أحمده على نعمه العظام، وأشكره على أن بعث لنا
محمداً - عليه الصلاة والسلام- وجعلنا خير أمة على مر الشهور والأعوام،
وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الصابرين والشاكرين، وسيد
ولد آدم أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله الطاهرين،
وصحابته الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن
الله يصطفى من عباده من يشاء ويختار، فقد اختار من الناس الأنبياء - عليهم
الصلاة والسلام-، واختار من الأنبياء أول العزم، ومن أولي العزم الخليلين
إبراهيم ومحمد - صلى الله عليهما وسلم-.
وقد تمثل اختيار الله
لإبراهيم في أن جعله أبو الأنبياء، وباني بيته الحرام، ومكرم الضيفان،
والمتمثل لأمر ربه، فإنه لما أمره الله بذبح ابنه وفلذة كبده امتثل الأمر
واستجاب للخطاب.
وكذلك أعطاه الله ولداً باراً صابراً تقياً، بل قبل
هذا كله فهو نبي – عليه السلام- قال الله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ
السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}سورة الصافات
(102 - 104).
فتأمل معي هذه الآية العجيبة في وصف إبراهيم الأب مع
ابنه إسماعيل في حادثة سطرها القرآن ودونها التاريخ، في قضية تدل على
اختيار الله لهذين النبيين، ولشدة إمتثالهما وصبرهما وتسليمها لأوامر الله،
واجتنابهما لمخالفة أوامره.
قال الله حاكياً عنه: {قال يابني إني
أرى في المنام أني أذبحك} وهذا يدل على أن رؤيا الأنبياء وحي؛ وأنها حق؛
كما قال ابن عباس- رضي الله عنه -: رؤيا بالأنبياء وحي.
وقال محمد
بن كعب- رحمه الله-: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله أيقاظاً ورقوداً، فإن
لا تنام قلوبهم. وقال القرطبي بعد ذكره لقول محمد بن كعب السابق : وهذا
ثابت في الخبر المرفوع، قال - صلى الله عليه وسلم-: "إنا معاشر الأنبياء
تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا"1.
{فانظر ماذا ترى} إنما شاروه ليعلم صبره لأمر الله، أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله؛ كما قال القرطبي.
فما كان من ابنه إلا أن قال محتسباً، مرضياً لربه، ومسلماً لأمره، وباراً لوالديه: {يا أبت افعل ما تؤمر} أي امض لما أمرك الله.
{ستجدني
إن شاء الله من الصابرين}. قال ابن كثير – رحمه الله-2: فطاوع أباه على ما
إليه دعاه، ووعده بأنه سيصبر فوفى بذلك، وصبر على ذلك.
قال الله-
تعالى- : {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ
أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ
ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ
الْأَخْيَارِ}سورة ص45-47. وقال: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ} (48) سورة ص. وقال:
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ }سورة
الأنبياء (85- 86).
ثم قال : {فلما أسلما} قال ابن سعدي - رحمه
الله – أي إبراهيم وإسماعيل، إبراهيم جازماً بذبح ابنه وثمرة فؤاده،
امتثالاً لأمر ربه، وخوفاً من عقابه. والابن قد وطّن نفسه على الصبر، وهانت
عليه طاعة ربه، ورضا والده.
وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس وعلي: {فلما سلّما} أي فوضا أمرهما إلى الله.
{وتلّه للجبين} قال قتادة- رحمه الله -: أكبه وحول وجهه إلى القبلة.
وقال ابن سعدي في تفسيره: تل إبراهيم إسماعيل على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلاّ ينظر وقت الذبح إلى وجهه.
فتأمل
في هذا الصبر والتسليم لأمر العزيز الحميد، والبر بالوالد الرحيم: {إني
أرى في المنام أني أذبحك... افعل ما تؤمر}. ثم بعدها: {فلما أسلما وتله
للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين}.
فلنتأمل قليلاً: هل نحن ممن إذا أمرنا أو نهينا قلنا سمعنا وأطعنا أم أننا بعكس ذلك؟! .
ولنا
في الأنبياء قدوة وأسوة، قال الله لنبيه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى
اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}سورة الأنعام (90). إشارة إلى
الأنبياء الذين سبقوه.
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}سورة الأحزاب(21). وقال:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}سورة الممتحنة (6).
نسأل الله أن يوفقنا إلى
ما يحبه ويرضاه، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شرور أنفسنا، اللهم! وفقنا
لامتثال أمرك واجتناب نهيك، والتسليم لقضائك وحكمك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين..
1 - ذكر له شواهد أحدها عند البخاري انظر السلسلة الصحيحة (1705)و صحيح الجامع (2287 )للألباني.
2 - البداية والنهاية (1/179)