حينما ذَكَّر نوح قومه قال مُسْتَفْهِمًا : (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) ؟
إن أعظم توقير يجب أن يكون لِمَن أسْبَغ عليك نِعَمَه وأنت في طَوْر الـنُّطْفَة ، ولذا قال مُذَكِّرًا : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) حينما لم تكن شيئا مَذكورا !
ثم تَوَالَتْ عليك مِنَنه ، وتَتَابَعت عليك نِعَمه .
هل تأمّلت أحوالك وأنت تنتقِل مِن طَور إلى طور ، مِن غير حول ولا قوة لك ولا لأحدٍ مِن البَشَر
قال ابن القيم عن الرَّحِم : مَن الذي أوحى إليه أن يَتَضَايق عليك وأنت نُطْفة حتى لا تَفْسد هناك ؟ وأوحى إليه أن يَتَّسِع لك ويَنْفَسِح حتى تَخْرُج منه سليما إلى أن خَرَجْتَ فَريدا وَحيدا ضَعيفا لا قِشْرة ولا لِباس ولا مَتاع ولا مَال ؟ أحْوج خَلْق الله وأضعفهم وأفقرهم ، فَصَرَف ذلك اللبن الذي كنت تَتَغَذَّى به في بَطن أمك إلى خِزَانتين مُعَلَّقَتين على صدرها ! تَحْمِل غذاءك على صدرها ، كما حَمَلَتْك في بَطنها ، ثم سَاقَه إلى تَيْنِك الخِزَانَتين ألْطَف سَوْق على مَجَارٍ وطُرُقٍ قد تَهَيَّأت له ، فلا يَزال وَاقِفًا في طُرُقه ومَجَارِيه حتى تَسْتَوفِي ما في الخزانة ، فَيَجْرِى ويَنْسَاق إليك، فهو بِئر لا تَنْقَطِع مادَّتها ، ولا تَنْسَدّ طُرُقها ، يَسُوقها إليك في طُرُقٍ لا يَهْتَدِي إليها الطَّواف ، ولا يَسْلكها الرِّجال ، فمن رَقَّقَه لك ، وصَفَّاه ، وأطَاب طَعْمه ، وحَسَّن لَونه ، وأحْكم طَبْخَه أعْدَل إحْكَام ؟ لا بِالْحَارَّ الْمُؤذِي ، ولا بالبَارِد الرَّدي ، ولا الْمُرّ ولا المالح ، ولا الكَرِيه الرائحة ، بل قَلَبَه إلى ضَرْب آخر مِن التغذية والمنفعة ، خِلاف ما كان في البطن ، فَوَافَاك في أشد أوقات الحاجة إليه على حين ظمأ شديد وجوع مفرط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع ، فتجد الثدي الْمُعَلَّق كالإدَاوَة قد تَدَلَّى إليك ، وأقبل بِدَرِّه عليك . اهـ .
أمَا خَرَجْتَ مِن بَطْن أمك مَقْلُوبا لا تَرَى ولا تَعِي ؟!
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)
أما وَهَبك الله عَينين ، لِتَرَى ؟
ومَنَحَك أُذُنين ، لِتَسْمَع ؟
وحَبَاك قَلْبًا وَاعِيًا لِتَعِي وتُدْرِك ؟
بلى .. فَبِهَا أدْرَكْت ووعَيت وعَقَلْت وتعَلَّمْت (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
وهَداك سُبُل السَّلام وسبيل الرشاد
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)
إن لم تتفكر في نفسك التي بين جنبيك ، ولم تَرَ دَقيق صُنع الله فيها
فَدُونَك ما هو أعظم من ذلك
خَلْق السَّماوات (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا)
وجَعَل فيهن ما تقوم به حياتكم (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا)
كيف لا يُوقَّر ولا يُرْجَى له وَقَار .. مَن لا إله غيره ؟ ولا رب سواه ؟
فلا خَالِق ولا رَازِق غَيره ؟
ولا مُدَبِّر للأمْر إلاَّ إياه ؟
إذ لا كاشِف للبلوى إلاّ الله ..
قال ابن القيم :
كيف لا تُحِبّ القلوب مَن لا يأتي بالحسنات إلاّ هو ؟ ولا يَذهب بِالسيئات إلاّ هو ؟ ولا يُجيب الدعوات ، ويُقِيل العَثرات ، ويَغفر الخطيئات ، ويَستر العَورات ، ويَكشف الكُرُبات ، ويُغيث اللهفات ، ويُنِيل الطَّلَبَات سِواه ؟ فهو أحقّ مَن ذُكِر ، وأحَقّ مَن شُكِر ، وأحقّ مَن حُمِد ، وأحَقّ مَن عُبِد ، وَأنْصَر مَن ابْتُغِي ، وأرْأف مَن مَلَك ، وأجْود مَن سُئل ، وأوسع مَن أعْطَى ، وأرْحَم مَن اسْتُرْحِم ، وأكْرَم مَن قُصِد ، وأعَزّ مَن الْتُجِئ إليه ، وأكْفَى مَن تُوكِّل عليه . أرْحَم بِعَبْدِه مِن الوالِدَة بِوَلَدِها ، وأشَدّ فَرَحًا بِتَوبة عِباده التائبين مِن الفَاقِد لِرَاحِلته التي عليها طعامها وشَرَابه في الأرض الْمُهْلِكة إذا يَأس مِن الحياة فَوَجَدها . وهو الْمَلِك فلا شَريك له ، والفَرْد فلا نِدّ لَه . كُلّ شيء هالِك إلاَّ وَجْهه ، لن يُطاع إلاَّ بِإذنه ، ولن يُعْصَي إلاَّ بِعِلْمه ؛ يُطَاع فَيَشْكُر ، وبِتَوفِيقه ونِعْمَتِه أُطِيع ، ويُعْصَي فَيَغْفِر ويَعْفُ ، وحَقّه أُضِيع . فهو أقرب شَهيد ، وأدْنَى حَفيظ ، وأوْفَى وَفِيّ بِالْعَهْد ، وأعْدَل قائم بِالقِسْط ، حال دون النفوس ، وأخذ بالنواصي ، وكَتَب الآثار ، ونَسَخ الآجال ، فالقُلُوب له مُفْضِية ، والسِّرّ عِنده علانية ، والعلانية والغيوب لديه مَكْشُوف ، وكُلّ أحد إليه مَلْهُوف ، وعَنَتِ الوُجُوه لِنُور وَجْهه ، وعجِزت القلوب عن إدراك كُنْهِه ، ودَلَّت الفِطْرة والأدِلّة كُلّها على امْتِنَاع مِثله وشِبهه ، أشْرَقَت لِنُور وَجْهه الظلمات ، واسْتَنَارَت له الأرض والسماوات ، وصَلحت عليه جميع المخلوقات ، لا يَنام ولا يَنبغي له أن يَنام ، يَخفض القِسْط ويَرفعه ، يُرْفَع إليه عَمل الليل قَبل عَمل النهار ، وعَمَل النهار قبل عَمَل الليل ، حِجَابه النور لو كَشَفَه لأحْرَقَت سُبُحَات وَجْهه ما انتهى إليه بَصَره مِن خَلْقه . اهـ .
فما للنفوس لا تعظم المَلِك القُدُّوس ؟
إن مِن إجلال الله : تعظيم شعائر الله ..
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)
قال القرطبي في تفسيره : الشعائر جمع شعيرة ، وهو كل شي لله تعالى فيه أمْر أشْعَر به وأعْلَم . اهـ .
( وسيأتي مزيد – إن شاء الله - في تعظيم القرآن والأدب معه ) .
وتَعظيم حُرُمات الله .. مِن إجلال الله .. (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)
ومِن ذلك :
أن لا يُحْلَف بالله كذِبًا ..
جاء في خَبَر نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام أنه قال : ربي عز وجل يعلم أني كُنت أمُرّ على الرَّجُلين يَتَزَاعمان ، وكُلّ يَحْلِف بالله - أوْ على الـنَّفَر يَتَزَاعَمُون- فانْقَلِب إلى أهلي فأُكَـفَّـر عن أيمانهم ، إرادة ألاَّ يأثم أحَدٌ ذَكَره ، ولا يَذْكُره أحَدٌ إلاَّ بِالْحَقّ .
وفي خبَر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام : أنه َرأَى رَجُلًا يَسْرِقُ ، فَقَالَ لَهُ : أَسَرَقْتَ ؟ قَالَ : كَلَّا وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ . فَقَالَ عِيسَى : آمَنْتُ بِاللهِ ، وَكَذَّبْتُ عَيْنِي . رواه البخاري ومسلم .
ومِن إجلال الله : أن لا يُجْعَل الله عُرْضَة للأيمانِ : (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ)
وأن لا يُجْعَل الله أهْوَن الناظِرين .. بل يُعظَّم نَظَر الإلـه ، ويُسْتَحيا مِن الله ..
أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني في نونيته :
وإذا خَلَوت بِريبة في ظُلْمة = والنفس داعـية إلى الطغيانِ
فاسْتَحي مِن نَظر الإله وقُل لها : = إن الذي خَلَق الظلام يراني
ومِن إجلال الله : إجلال ذي الشيبة المسلم ؛ لأنه شَابَ في طاعة الله .
وفي الحديث : إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ . رواه أبو داود ، وحسنه الألباني .
وفي الحديث الآخَر : مَا أَحَبَّ عَبْدٌ عَبْدًا لِلَّهِ إِلَّا أَكْرَمَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . رواه الإمام أحمد ، وحسنه الأرنؤوط .
ومِن إجلال الله : تعظيم كلّ ما عظَّمه الله ..