شاعر وقارئ للتاريخ يتحدى حاخامات اليهود في إثبات حقهم في فلسطين
محمد سمحان: الشعر عشبة الخلود
يختزن في ذاكرته مواقف وحقائق مغيبة يمكن أن تحدث “تسونامي عربي”، تنتظر الإفراج وتحسن الظروف للبوح عمّا اكتشفه في جوف الأحداث وما وراء الكواليس، لذا تراه دائماً يعيش في وطن القلق تحت سوط الصمت وسيف الانتظار.
محمد سمحان شاعر وباحث وقارئ للتاريخ بعيون نقدية لا تعرف المجاملة، لذلك تراه دائماً في مشاحنات ومناكفات مع بعض مؤرخينا الذين غرقوا في بحر الاستشراق واستسلموا لدرجة الوقوع في استنتاجات المستشرقين التي وصفها بالمزيفة وتخدم مصالح بعينها.
في حديثه دهشة وصدمة عندما يألفك ويثق بك ويطلعك على ما وجد في رحلته للتنقيب عن حقائق الأحداث في منطقتنا، فيبوح بما يقلب المعادلات ويضيء محطات كثيرة في تاريخنا الحديث.
أما قصائده فالوطن والأرض والشهداء والجمال والغزل والرثاء عناوينها.. تصهل دائماً بالحب والأمل بالغد الآتي رغم العتمة والإحباطات والانتكاسات.
صدرت له ستة دواوين شعرية هي: “معزوفتان على وتر مقطوع” و”أناشيد الفارس الكنعاني” و”أنت أو الموت.. قال النبي الطريد” و”أقانيم” و”الآبدتان” و”أبجدية العشق والجنون”، وله مؤلفات: “مقالات في الأدب الأردني المعاصر” و”فن الشعر بين الماهية والغائية”، ودراسات “أعلام الأردن في القرن العشرين” و”تاريخ الفكر السياسي الفلسطيني في 100 عام” و”الطريق إلى يبوس” الذي تحدى فيه حاخامات إسرائيل ورجال الدين المسيحي في مناظرة مفتوحة حول أية حقوق لليهود في فلسطين.
وفي حديثه مع “الاتحاد الثقافي” قال سمحان إن تدهور الحالة الشعرية يعود لغياب حركة نقدية بنائية، ووصف الشعر بأنه “عشبة الخلود” وساحر عجيب يجذب إليه أشخاصا من تخصصات مختلفة لينظموا قصائد تخلدهم.
وقال “الجمال نقطة ضعفي”، والمرأة تشكل “أقنوما” لا أستطيع تصور حياتي بدونها وأبحث عنها في كل لحظة، معتبرا أن الشاعر هو الأقدر على دغدغة مشاعرها وإغرائها أو إغوائها وسكب كلماته في أذنها كالنعاس.
وفيما يلي تفاصيل الحوار:
◆ يقال كثر الشعراء وانخفض مستوى القصيدة.. هل من وجهة نظر؟
◆ هذا صحيح ربما لغياب الحركة النقدية التي تفرز وتميز بين الغث والسمين وانفتاح الحياة من خلال ثورة الاتصالات والمواصلات جعلت كثيرا من الناس يلجون حلبة الشعر، معتقدين أن حائط الشعر منخفض ويستطيع أي منهم أن يقفز عنه، تماشياً مع المثل القائل “لقد هزلت حتى سامها كل مفلس”، لكن الحقيقة تقول إنه في كل زمان ومكان يكثر أدعياء الشعر، ولكن الزمن وحده هو الذي يكرس الشعر العظيم والشعراء العظام.
فلم يكن هناك أجهزة إعلام تروج لإمرئ القيس والنابغة الذبياني في عصور ما قبل الإسلام، ولا للمتنبي والبحتري وأبي تمام في العصور الوسطى، ولا لشوقي والجواهري ونزار قباني في الزمن الحاضر، وأعتقد أن الزمن والحراك الأدبي أفرز في كل عصر ثلة وأهمل البقية وهذا ما يحدث الآن.
هناك كثير من الناس يعتقدون أنهم قادرون على الدخول إلى عالم الشعر والشعراء، لكن أغرب ما في الأمر أن هذا الكائن السحري العجيب هو محط أنظار وطموح الطبيب والمهندس وعالم الذرة وعالم الدين والبدوي في الصحراء، فأي سر وأي سحر في الشعر يجذب هؤلاء من مجالات مختلفة! وما الذي يجعل طبيبا ناجحا كإبراهيم ناجي (شاعر الأطلال) أو المهندس علي محمود طه أن يكتب شعرا؟! إنها حالة عجيبة تدفع الناس لكتابة الشعر بغض النظر عن تخصصاتهم وقدراتهم وكفاءاتهم.
الخلود والفوضى
◆ كشاعر ومؤرخ.. ما تفسيرك لهذه الظاهرة التي أسميتها حالة عجيبة؟
◆ لقد درست الحالة ووجدت أن بحث الإنسان ربما عن الخلود الذي أعجز جلجامش ودفعه لترحاله في العوالم السفلى للحصول على عشبة الخلود، وكأن النفس البشرية تعتقد أن عشبة الشعر هي الخلود وفي هذا بعض الحقيقة، فمن في بريطانيا ومستعمراتها أو الناطقين بلغتها لا يعرف شكسبير، بينما لا يذكرون ملوك بريطانيا. وفي روسيا لا يذكرون إلا بوشكين، وفي ألمانيا يذكرون غوته، بينما في الوطن العربي يذكر سيف الدولة حينما يذكر المتنبي وليس العكس، ويذكر المعتصم حينما تذكر قصيدة “السيف أصدق أنباء من الكتب” .
وأرى أن بحث الإنسان عن الخلود جعله يعتقد أن بوابة الشعر هي بوابة الخلود الحقيقي التي تحفظ للإنسان ذكره عبر العصور.
◆ هذا يقودنا لتساؤل حول الحالة الشعرية أو الواقع الشعري العربي؟
◆ ما نشاهده في هذه السريالية في التشكيلات الشعرية من قصيدة البيت إلى التفعيلة إلى القصيدة النثرية إلى النص المفتوح على كل أشكال الكتابة هو فوضى في المجموع وفي كل تصنيف على حده فإلى متى ستستمر؟.
أريد أن أسأل شعراء قصيدة النثر وأنصارها وشعراء التفعيلة والبيت.. هل تعجبهم هذه الفوضى؟ أو ليس كافيا العقاب الذي توقعه الجماهير على أبناء هذه الفوضى ممن يدعون أنهم شعراء بمقاطعة ندواتهم ودواوينهم المطبوعة ليرعووا قليلا ويعودوا إلى توازنهم ومراجعة إنتاجهم.
وأكرر السؤال: أما آن لهذه الفوضى في الأسماء والدواوين أن تنتهي حفاظا على قدسية الشعر وروعة الشعراء.
لكل مرحلة.. شعراء
◆ في ضوء ما تشهده الميادين العربية هل من دور جديد للقصيدة؟
◆ في تصوري ان ما يجري في عواصم عربية بعينها من حراك بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، وما آلت إليه الأمة من إحباطات وانتكاسات وثبات على أحوالها 30 عاماً، جاءت الحركات الشبابية بغض النظر عن مختلف التحليلات السياسية للدوافع والأسباب لترمي بحجر في هذا المستنقع الآسن اقتصاديا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا. وبما أن الشعر والأدب بشكل عام تعبير عن النفس الإنسانية في حراكها، فلا بد أن تترك هذه الحركات أثرا على الواقع الأدبي الشعري، ذلك أن الشعر انعكاس للأوضاع السائدة فهو ينهض بنهوض الأمة وينتكس بانتكاساتها، ولكن السؤال هو إلى أي مدى سيكون الشعر تغييرا للأحوال القائمة وما أرسته، فهذا يتوقف على مدى جدية وصدقية الحراك الشبابي ونجاحها في تغيير الواقع.
وكما أخرجت حركات التحرر العربي في مطلع القرن الماضي شعراء عظاما كأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعمر أبو ريشة والرصافي والجواهري وإبراهيم طوقان وجبران... وحركات الاستقلال أخرجت السياب وعبدالصبور وهارون هاشم رشيد وشقيقه علي.. والثورة الفلسطينية أفرزت محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، فلا شك أن الحراك العربي القائم حاليا سيفرز شعراء وشعرا يعكس هذه المرحلة لأن الشعر يمثل التاريخ الثقافي للأمة وقد يكون أصدق من توثيق التاريخ بمفهومه العام.
موقف وسطي
◆ أنت شاعر مسيّس.. ماذا فعلت السياسة وما تأثيرها على نتاجك؟
◆ باعتقادي أن الشعر يوحي ولا يقول ويفتح أبوابه على فضاءات التأويل وهذا ما ينبغي أن يكون عليه، لكن حملك لرسالة فكرية سياسية اجتماعية يدفع بك للهبوط من فضاءات الشعر إلى أرض الواقع لتخاطب الشرائح التي يعتقد أنك تعبر عن قضاياها ومشاكلها وهمومها.. هذا الهبوط بدوره يجعلك مضطرا لأن تقول أكثر ممّا توحي به من أجل حث الجماهير وحفزها باتجاه خلق حلول لقضاياها وهمومها، فتقترب بذلك من نوع من المباشرة في الخطاب الشعري لتؤدي رسالتك الفكرية السياسية متجاوزا مقاييس الجودة في الإبداع الشعري.
فإذا أردت أن تكون شاعرا جماهيريا كمظفر النواب أو سميح القاسم عليك التخلي عن بعض القيم الفنية والجمالية في الإبداع الشعري، أو تنسحب من الساحة كما فعل محمود درويش في آخر حياته لتكتب شعراً يبحث عن قيمه الجمالية والفنية بعيدا عن مقاييس الجماهير.
وقد حاولت أن أقف موقفا وسطا بين التيارين متكئا على إشارات تاريخية وأحداث تمتلك وهجها السلبي أو الإيجابي في تاريخ الأمة كمؤشرات على عوامل الوهن والقوة، ولعل هذا أكثر معلم واضح في قصائدي السياسية في حين أترك هذا المفهوم وأعتمد على القيم الفنية والجمالية في قصائد الغزل أو الرثاء.
◆ يلقبونك بشاعر المرأة.. بأي صورة تقدمها في قصائدك؟
◆ إن الله تعالى خلق آدم وأطلقه في الجنة ليعيش ويفعل كما يشاء، لكنها لم تكن لتحقق الغاية التي يسعى لها آدم فخلق الله تعالى المرأة التي كانت سببا في إخراجه من الجنة كما تقول الميثولوجيا الدينية، إلا أن آدم لا يزال يبحث عن حوائه التي لا يستطيع العيش دونها. فالرجل منذ بدايات حياته وحتى مماته يسعى لتحقيق حظوة عند أي امرأة وكأنه لا يجد ذاته ولا يحقق وجوده إلا من خلالها، فهي تشكل المحور الرئيس في الحياة، ولا يستطيع الشاعر أن يشذ عن هذه القاعدة، بل ربما تكون المرأة لديه أكثر أهمية من سواها بحكم إحساسه المفرط بقيمها الجمالية والروحية التي تمتلكها.
وأقول إن الشاعر أكثر الناس حظا في علاقاته مع المرأة لأنه الأقدر على دغدغة مشاعرها والوصول لأغوارها النفيسة من خلال كلماته المعسولة التي يسكبها في أذنها كالنعاس وكما قال الشاعر أحمد شوقي “والغواني يغرهن الثناء”. وقد يستطيع شاعر بأبيات من الشعر أن يغري أو يغوي امرأة يعجز غيره من أصحاب الملايين عن إغرائها أو إغوائها، فالمرأة قلعة حصينة مفتاحها الأذن والشاعر هو حاوي الكلمات السحرية التي تفتح مغاليق النساء.
والمرأة في حياتي تشكل “أقنوما” عظيما لا أستطيع تخيل حياتي دونها، وأبحث عنها في كل لحظة زمنية أو مكانية.. أبحث في المرأة ذاتها عن المرأة الأسطورية المتجددة التي تمتلك قدرات تفجيرية تهز كياني وتشوش أفكاري وتستنهض مشاعري لأكتب لها أجمل ما أستطيع من كلام في أبهى صور الموسيقى وفن تشكيل الألوان.
◆ لك فلسفة خاصة تجاه الجمال.. فماذا يفعل بك كشاعر؟
◆ إنه نقطة ضعفي وأنحني بكل تواضع أمام زهرة اللوز أو وردة الجوري أو شلال المياه أو مداعبة قطة لوليدها أو خرير جدول أو انبثاق ينبوع أو تشكيل أحد التضاريس أو تناسق وموسيقى جمال امرأة بشكلها أو حركاتها أو حديثها.
والعقد غير المنفصم بين الجماليات يفتح آفاقي الروحية على عظمة خالق هذا الجمال ويدفعني لتأمل في صلاة لا يعرف أن يتقنها إلا من مر بتجربتها ولمس واكتنه أسرارها، فالجمال كما قال عنه الفلاسفة هو ثالث الأقانيم المسبوق بالحق والخير.
أتحدى الحاخامات
◆ كمؤرخ تحديت في مؤلفك الحديث “الطريق إلى يبوس” حاخامات ورجال الدين المسيحي حول تاريخ فلسطين.. هل ما زال التحدي قائماً؟
◆ حاليا أقوم بدراسة ردود الفعل حول “الطريق إلى يبوس” وبصدد تعميق وتوسيع المحاور التي طرحت، فالصهيونية العالمية والمسيحية تقذف من مطابعها آلاف الكتب التي تزيف وتزور تاريخ منطقتنا لتبرير تشريد الشعب الفلسطيني وإقامة إسرائيل.
فمسألة الأديان والأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى لمصلحة ومنفعة البشر أسيء استغلالها من قبل جماعات وأفراد من ذوي المصالح الضيقة دون أن يجدوا من يتصدى لمصالحهم وأطماعهم التي تخلخل وتزعزع القيم والجماعات البشرية.
فكيف تبيح اليهودية التي جاء بها النبي موسى لتحرير اليهود من عبودية فرعون لنفسها أن تستعبد شعبا آخر وتمارس عليه ما كان يمارس عليها كما أن المسيحية التي جاءت لتبشر بالسلام على لسان السيد المسيح تشن أبشع حروب التاريخ.. والإسلام الذي يبدأ بـ”السلام عليكم” تنقلب الموازين ليتهم بالإرهاب!
وأرى أن على المؤرخ الناجح المحايد والموضوعي أن يلج عوالم الأديان ويحللها لعواملها الأولية، لكي يخرج منها القيم الإنسانية المشتركة التي تساعدنا على أن نعيش حتى الحد الأدنى من شروط الحياة. وأتساءل بحرقة هل تجيز القيم والمعطيات القائمة في العالم إعادة الإغريق والفرس لإمبراطورياتهم السابقة؟ وهل تجيز للعرب أن يعودوا إلى إسبانيا التي حكموها ألف عام؟ وهل تجيز للأسترالي والأميركي والفرنسي والألماني أن يقيموا إمبراطوريتهم في القدس وبيت لحم والناصرة لأن السيد المسيح عاش في المنطقة وبشّر برسالته؟ وهل تجيز لأتباع اليهود وغالبيتهم ليسوا/ ولم يكونوا من أبناء المنطقة يوما إلا على صفحات التاريخ أن يقيموا كيانهم بحجة أن أتباع موسى أقاموا ذات 100 سنة أو أقل في فلسطين؟.
وشخصيا أتحدى حاخاماتهم في أن يكون لهم علاقة بفلسطين، فالتاريخ وكتابته وكتابه يجب أن يكونوا قضاة عادلين في إصدار أحكامهم على القضايا التي تشكل محاور خلاف.