العشق والحزن
تصادفت بوجه البنت الغارقة بالكآبة. كنت أرآها تخرج من المتاجر القريبة من المقهى، وما زلت أذكرها، وهي تستقبل ضيوفها بالعبوس واليأس، تشق طريقها ببطء ما بين الطاولات المزدحمة، تسمع قهقهات رواد المقهى وتمتمات النساء، فثمة ما يدفعها الى الابتسامة المائلة إلى الحزن. ربما تخلى عنها البؤس قليلا، لكن الفرحة تخلت عنها سائر الأيام. وددت لو أعرف حكاياتها مع الحزن، تعمقت بوجهها كثيرا، ظهرت أسنانها سوداء، ورأيتها ذات مرة تجلس على كرسي خشبي بين ممرات المتاجر، وقد غطى وجهها الدخان، فبدا وكأن هناك احتدام ما بين حزنها وحالة العبث التي تعتريها، تجعلها تنفث ما تبقى في نفسها.
عالم محزون يتوغل في عيون يانعة، وهي لم تبحر في ذاكرة الحياة بعد. رحلت النادلة ما هي إلا مسحة حزن تتشح في المكان. إذ كلما جئت لكي أرتشف فنجانا من القهوة، يحضر حزنها كما لو تصالحت الفتاة معه إلى أبد الدهر.. لم تترك خلفها إلا فراغات تحاكي المكان. ولأن أعماق النفس غالبا ما تتبدى في تشكيلات خلاقة، وفنيات محكمة، لذا فإن صورتها النفسية تظهرها وكأنها تريد أن تسترسل أمام الحضور، لكن ذكرياتها تمنحها خاصية حزن تفيض عنها وعلى ما حولها.
الحزن الذي ينشئ حوارات مع الذات قد يتحول إلى هاجس نفسي، وقد تنشأ عنه تضاريس وتفاصيل لا يجيد قرأنها سوى الذي يألفها. يحيل الحزن الذات الى ذوات متشظية تتقاسم تلك التضاريس والتفاصيل، التي تنتج الإنزواء واجترار الألم النابع من الذكريات.. قد تتسبب بهذه الجالة أحوال عارضة: لحن موسيقي حزين مثلا، أو عبور رتيب لسحابة مكفهرة، أو امتداد ظل، أو سقوط قطرات مطر.. تصبح كل تلك الأحوال مجرد دروب إلى الوحدة والإنزواء داخل الذات.
للحزن ألوان، يتقاسمها السفر والمودة والبعد، وأشدها حزن القلب على العشيق. فمن أعماق هذا الحزن تذرف العين دمعها، فيفتك بالبدن والروح. الحزن يؤرق الصغير كما يؤرق الكبير، بل يبدو أشد على فئة من أخرى، فالإنسان المرهف تصهره الأحزان، وتظل تنهشه وتفضي به إلى الاندثار المقيت.
يقول شاعر العصر وشاعر الحب الحديث نزار قباني: “علمني حبك أن أحزن/ وأنا محتاج منذ عصور/ لامرأة تجعلني أحزن”. قصيدة تلخص ما مفاده بأن الإنسان لا يعلم مدى السعادة ولذة الفرح إلا من خلال تأثير الحزن وتشظيه في النفس، فمن صور الحزن الجنون مثلما شخصه الشاعر قيس بن الملوح وعشقه الحزين الذي قاده الى التهلكة، وهو الذي أنشد:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا
وأيام لا أعدي على الدهر عاديا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا