قرحة في المعدة
أ
في عيادة أستاذ الجهاز الهضمي كنت أجلس انتظر دوري عندما انفتح الباب وخرج من حجرة الطبيب رجل في الأربعينات يضع بيريه فوق رأسه. خرج الرجل يضرب كفاً بكف، ثم نظر إلينا وأشار نحو غرفة الطبيب قائلاً: الدكتور يقول لي: ما تزعّلش نفسك حتى لا تتفاقم القرحة.هل يظن حقاً أنني أساهم في تخريب صحتي بتعمدي ان أزعّل نفسي؟..هل تظنون أنتم أنني أفعل هذا؟.انني انحني أمام الحوض كل صباح لمدة ساعة أكاد أطرد أحشائي مع العصارة الحمضية الحارقة، وفي معظم الأيام أتقيأ دماً..ولا يخفى عليكم الآلام المصاحبة لكل هذا، فهل يمكن ان يكون ذلك من صنعي؟..قولوا للطبيب ان يطلب من الناس ألا يزعلوني، فهذا أجدى من ان يقول لي: ما تزعلش نفسك!.
قال الرجل هذا ثم تهالك على مقعد بجانبي وفي يده روشتة الطبيب.أجال النظر في الجالسين بالصالة ثم استأنف حديثه:منذ يومين كنت أسير بالشارع عندما أتت من خلفي سيارة بها مجموعة من الشباب، وبدون سبب قام أحدهم بضربي بقبضة يده من الخلف في كليتي.الضربة كادت تقتلني من شخص لا يعرفني ولا أعرفه.بدا الرجل متأثراً جداً وهو يواصل: أنا أعلم ان الحياة مليئة بالسخافات وان كل الناس تتعرض لأشياء من هذا القبيل، لكن ما حيلتي اذا كنت لا أستطيع ان أحتمل قدراً كبيراً من هذه الأشياء في فترة وجيزة.
يبدو ان الرجل قد وجد راحته في الحديث فراح يكمل: صديقي..أعز أصدقائي اقترض مني مبلغاً من المال قال انه يحتاجه لإنقاذ أبيه من الموت حيث تلزمه جراحة عاجلة..هل كنت أرفض أم أمد له يدي؟..هو يعلم أنني لست غنياً وان الفلوس التي أخذها مني هي ذخري للأيام الصعبة القادمة عندما تتقدم السن وتضعف المناعة وتهجم بقية الأمراض، ومع ذلك فقد اخترع تمثيلية الأب المريض وأخذ القرشين!..لقد حدثني البعض بأنه كان ينبغي ان آخذ عليه وصل أمانة حتى أضمن حقي، لكن يا أسيادنا هل هناك من يأخذ ايصالاً على أخيه..أي حياة هذه؟.لقد خدعني، فهل يعني هذا أنني رجل مغفل أم يعني أنه خائن..قولوا لي بربكم حتى لا أجن.
نظرت حولي فرأيت الناس تتطلع الى الرجل وقد تركوا ما يشغلهم وانصرفوا تماماً الى الاستماع لما يقول.خلع البيريه فظهر شعره الأسود الناعم وتبدت وسامته وهو يلوح بيده قائلاً: حتى زوجتي لم تقاتل في صفي أبداً..كانت دائماً تحارب على الجبهة الأخرى وتمد الشياطين الذين يصيبوني بالصداع بذخيرة من النكد لا تنفد.لم أصدق يوم قالت لي: دع عنك حكاية الرجال القوامين على النساء..أنا أعمل مثلك ولا أحتاجك في شيء.دهشتي كان سببها أني لم أحدثها في شيء مما ذكرت وإنما قلت لها فقط: ممكن كُباية مية من فضلك..آه والله هذا ما قلته.وسبب الدهشة أيضاً أنها تعمل صحيح لكنني لم اسمح لها بانفاق مليم واحد على البيت وأتكفل دائماً باحتياجاتها.
قطع استرساله وسألني متشككاً: هل أنت معي أم أنني أكلم نفسي؟.هززت رأسي بما يفيد متابعتي لحديثه.قال: والله ما زعلت من رغبتها في التحرر ولا من اضطراب تفكيرها..أنا حزنت من غياب الإنصاف..الإنصاف الذي سيقتلني اشتياقي إليه..لو أنها تريد لنفسها ولكل إنسان في الدنيا أن يكون مسؤولاً عن نفسه فقط ولا يضع أحداً تحت كفالته..فوالله لم أكن لأقف في طريقها لأنها بهذا تعفيني من عبء مسؤوليتها..لكن لو كانت صادقة فيما تدعيه فلماذا تأخذ فلوسي اذن؟..ألا تشكل هذه الفلوس قدراً من الحماية تستوجب ان تظهر بعض الاحترام والتقدير لصاحبها..لماذا تلجأ إليّ في الشدة ما دمت أنا مجرد كيس جوافة..و لماذا إذن لا نعيش معاً كصديقين دون أي التزامات؟..ثم كيف تسمح لنفسها ان تفعل مثل الفنانات المعتزلات التائبات عن الفن اللاتي يقمن بلعن الفن ثم لا يفكرن في ارجاع فلوسه!.
سكت فجأة ثم قال لي بصوت خفيض: أنا لا أعرف البكاء وربما كان هذا من أسباب قرحتي..هل يمكن ان تهبني شيئاً من دموعك وتبكي بدلاً مني؟.
تسمرت في مكاني وعجزت عن الرد، ثم وجدتني أندفع خارجاً من باب العيادة..وعلى السلم انفجر داخلي السؤال: أنا أستطيع البكاء بسهولة..فلماذ أصابتني القرحة أيضاً؟.