أشعر بالقلق
تقرير صحفي، بثته إحدى الفضائيات العربية، أصابني بالقرف مما رأيت، فحوى التقرير الوضع الاجتماعي والاقتصادي في إحدى مدن جنوب الصومال، فقد كان المشهد مؤذياً للعين، مؤلماً للقلب، محيراً للعقل .. فالأطفال الذين يعيشون تحت سقوف خيام من “الطرابيل” هم أشبه بالأشكال الآدمية، التي سحت عنها اللحم، وبرزت العظام الرميم كأنها أعواد شجر عجفاء، والعيون زائغة كأنها تشهد يوم الحشر، والذباب يحوم على الأجساد الذابلة، ولا أدري عن ماذا يبحث، والأرض بطحاء غبراء، مسمدة بفضلات من أصبح التراب، مراحيض ومغاسل لأجسامهم.
تذكرت محمد سياد بري، الرئيس الذي خلعه الصوماليون طلباً للحرية والديمقراطية، وأنا على يقين أن كل العجائز الذين ابيضت شعورهم، وذوت شفاههم، وبانت العروق كالأسلاك التالفة يتذكرون الديكتاتور الذي رفضوه، ويضربون كفاً بكف، ويمضغون الفراغ، ويحصدون الأسى، ويتمرغون في أكوام من الندم على ما فات. وكل واحد منهم يقول في نفسه، على الأقل في أيام ذلك الديكتاتور كان بلداً يسمى الصومال، واحداً موحداً، من أقصاه إلى أدناه، وعلى الرغم من انعدام الحرية، إلا أن رغيف الخبز كانت تصنعه اليافعات بأياديهن السمر، وليس عبر منظمات تعطي وتمن، ولو أعطت فإنها تعطي البقايا والفتات. أيام الديكتاتور كان الصومال يصدر الموز المكتنز والمواشي الثرية بلحمها وشحمها، أما اليوم فإن الصومال يستجدي جلد الخروف ليلحف سقف الخيمة المشقوق.
بعد الديكتاتور تفرق الصومال إلى طرائق قدد، وتبعثر دمه بين القبائل والفصائل، وصارت الحرية صناعة أصحاب القوارب الصغيرة الذين يجوبون البحار بحثاً عن غنيمة، وأصبحت الديمقراطية “حارة كل من إيده إله” فالشمال يحارب الجنوب، والشرق يقصف الغرب، والوسط يكمن في مأمنه، محافظاً على بقيا ما تبقى من قوة مصطنعة، ولا أحد يدري متى يخرج الأطفال الذين حرموا من أبسط الحقوق الإنسانية، من لقمة العيش الكريم والرعاية الصحية والتعليم، متى يخرج هؤلاء من وهدة الشقاء والعناء، وشعثاء الحياة التي أصبحت مسلسلاً درامياً يموت فيه البطل المنبوذ، فيختلف الأخوة الأعداء على تقاسم الغنيمة. متى يخرج الصومال من بحر القراصنة، وغابة المؤدلجين بالغلط، وكهوف الذين جاؤوا إلى الحياة ولم يعرفوا غير الانتماء إلى أنفسهم، وليذهب الوطن إلى الجحيم، متى يخرج الصومال من صهد حروب داحس والغبراء، وافتئات الذين انهار بهم سد المعرفة فزاولوا مهنة القتل لأجل القتل، وانتشروا كالجراد يحرقون الحرث والنسل، وتركوا أطفال الصومال إلى زوال مستقبل، واندثار حلم، وموت طموح.
متى يخرج الصومال من شرنقة البكاء على ماضٍ تولى، حتى وإن كان مريراً، لكنه بالتأكيد أسعد حالاً من مخيمات “الطرابيل” وعيشة الأنعام وبؤس الشوارد في دهماء لا يرحم حرها ولا يرأف بردها.