درس الديمقراطية الصعب
لم تكن تجارب الحكم الرشيد في التاريخ العربي قادرة على تحقيق الحرية السياسية إلا في عهود قصيرة المدى، وهذا ما يجعل العرب لا يجدون في ذاكرتهم ما يعتزون به أفضل من فترة الخلفاء الراشدين. وقد أسست الفتنة الكبرى في عهد الخليفة عثمان، ما ابتليت به الأمة العربية والإسلامية من شقاق ونزاع، ويبدو أن شبح صفين ما يزال يخيم على ذاكرة مثقلة بروايات التاريخ التي سرعان ما حملت نوعاً من القدسية الدينية عند البعض على رغم أنها دنيوية محضة، ولم يتح للعرب المسلمين رغم اتساع تجربتهم في الحكم أن يجربوا بيعة أو انتخابات ديمقراطية خالصة. ففي العهد الأموي على عظمة شأنه كانت الخلافة غلبة، وكذلك كان العهد العباسي، فلما سقطت الدولة العربية ظهرت دول متتابعة انتزعت الحكم بالقوة، وقد ظهر فيها قادة كبار تمكنوا من أن يأخذوا محبة الشعوب التي حكموها واحترامها بعد أن قدموا أعمالاً جليلة وحققوا انتصارات مهمة، وحسبنا أن نذكر من هؤلاء، صلاح الدين الأيوبي (الكردي) والظاهر بيبرس (الكازاخي) ومكانتهما تؤكد أن العقد الاجتماعي كان إسلامي الطابع لا مكان فيه لقوميات أو أعراق على رغم مراعاة بيبرس للراية العربية، فقد أعاد الخلافة شكليّاً ولكن في مصر بعد أن سقطت بغداد. والواضح أنه أراد بذلك أن يكسب شرعية لحكمه، وقد غاب دور الشعب قروناً عن الحكم الذي تداوله المماليك ومن بعدهم العثمانيون. وبعد تلك القرون نهضت الثورة العربية التي سميت "الكبرى" وفي سوريا تولى الحكم الملك فيصل، وقد توج ملكاً في الثامن من مارس عام 1920 بدعم بريطاني لإنهاء العهد العثماني، وكانت بريطانيا وفرنسا تعملان على تنفيذ اتفاقية سايكس- بيكو. وكانت المفارقة أن يبدأ السوريون أول درس ديمقراطي ذي أهمية في تاريخهم في عهد الملك فيصل، وتبدو مراجعة هذا التاريخ ضرورية ولاسيما أمام الشباب الذين يتطلعون اليوم إلى التغيير، ومن المفارقات أن نجد الهم نفسه متوارثاً من الأجداد إلى الأحفاد، ففي أول دستور للمملكة السورية أعدته لجنة برئاسة هاشم الأتاسي الذي سمي "أبا الدستور" نجد تطلعات السوريين إلى تحقيق الديمقراطية، فالمواد المتعلقة بتوصيف حقوق المواطنة في الفصل الثالث منه تؤكد على المساواة والحريات ولاسيما في العقائد والتعبير وحرية الإعلام. والمادة التاسعة عشرة منه تقول "المطبوعات حرة في ضمن دائرة القانون، ولا يجوز تفتيشها ومعاينتها قبل الطبع". وعلى رغم أن هذا الدستور كان يؤسس لدولة ملكية إلا أنه ربط قرارات الملك برئيس الوزراء والوزير المختص وهما مسؤولان أمام مؤتمر عام يضم مجلس الشيوخ ومجلس النواب. ويقول الباحثون إن هذا كان أول دستور عربي.
وفي فترة الانتداب الفرنسي على سوريا ظهر دستور آخر عام 1928 عبر لجنة ترأسها أيضاً هاشم الأتاسي، وقد تم تعديل هذا الدستور عدة مرات وكان قد استلهم من الدستور الفرنسي ونص على أن سوريا ذات حكم جمهوري نيابي، وكان ينص على عدم جواز ترشح الرئيس لولاية ثانية ولكنه عدل من أجل شكري القوتلي عام 1948. وعلى رغم ما شهدته سوريا من انقلابات عسكرية بعد الاستقلال فقد بقيت تجربة الديمقراطية تنمو حتى قيام الوحدة السورية المصرية التي تراجعت فيها الديمقراطية لصالح حكم زعيم حظي بمحبة الشعب لكونه أحيا التطلعات القومية في خطابه السياسي. لكن سوريا شهدت أيام الوحدة تسلطاً أمنيّاً كبيراً، بينما صار (مجلس الأمة) الذي تكون من برلماني البلدين ذا حضور شكلي في الحكم. وقد غاب الحراك السياسي، وألغيت الأحزاب، وتم تشكيل (اتحاد قومي) لكنه لم يتمكن من إقناع السوريين بوجود دور حقيقي لهم في السلطة. وإلى جانب العديد من الأسباب حدث الانفصال الذي استعادت سوريا خلاله تجربتها الديمقراطية، ولكن الشعب السوري الذي شعر بأنه خسر قوة الوحدة مع مصر لم يفرح بالديمقراطية، بل نهض لاستعادة الوحدة، ومن المفارقات أن بعض الضباط الذين قاموا بالانفصال أنفسهم عادوا إلى عبدالناصر يطلبون منه استعادة الوحدة مع تصحيح الأخطاء إلا أنه، كما يقال، رفض وقال "الوحدة التي ذهبت بانقلاب لا تعود بانقلاب". وقد ناهض السوريون عامة فترة الانفصال من خلال استعادتهم للأحزاب وللحياة البرلمانية وناضلوا من أجل تحقيق الوحدة وهم يتطلعون إلى وحدة كبرى تضم مصر والعراق وليبيا واليمن. ومع الثامن من مارس عام 1963 دخلت سوريا مرحلة جديدة من الحكم لم يكن فيها تمثيل نيابي حتى استعيد مجلس الشعب تعييناً ثم انتخاباً في عهد حافظ الأسد، وتم إقرار دستور جديد للبلاد. وقد كانت لهذه المرحلة خصوصياتها عبر تولي حزب "البعث" قيادة الدولة مع مشاركة بعض الأحزاب في جبهة وطنية تقدمية ما يزال لها تمثيل برلماني وحكومي في صيغة توافقية. لكن التحولات الكبرى التي شهدها العالم في الثمانينيات وسقوط منظومة الاتحاد السوفييتي تركت آثاراً بنيوية على دول العالم الثالث التي كانت تجد فيه جداراً استناديّاً داعماً لأساليبها في الحكم، وكان نهوض عصر الديمقراطيات في الدول المنهارة منه، قد شكل حافزاً لزيادة في الجرعة الديمقراطية في سوريا، ففي الدور التشريعي الخامس لمجلس الشعب تم توسيع مشاركة المستقلين الذين لا ينتمون إلى أي حزب سياسي، وكنت أحد هؤلاء المستقلين الذين حاولوا في هذا الدور ممارسة حضور ديمقراطي، ولكن التجربة لم تحقق مبتغاها.
وفي عهد الرئيس بشار الأسد تم إطلاق مشروع للتغيير والتحديث، وقد نشط الحوار السياسي في مرحلة سميت "ربيع دمشق"، لكن الربيع كان قصيراً فسرعان ما هبت عواصف شتى جعلت المشروع يتعثر على الصعيد الديمقراطي، وهو اليوم يستعيد حيويته ولكن في جو مضطرب مفجع، يهدد الوحدة الوطنية ويجعل سوريا على مفترق حاد، لا نجاة من مخاطره إلا بمتابعة الحوار الوطني بروح المسؤولية التاريخية التي يشعر بها كل مواطن سوري.