الغاز الطبيعي: بؤرة جديدة للصراع
تاريخ النشر: الثلاثاء 26 يوليو 2011
ارتبط ظهور النفط في الوطن العربي واحتلال بلدانه مكانة عالمية متميزة في إنتاجه بظهور أطماع عديد من القوى العظمى والكبرى في هذا المورد الحيوي، خاصة على ضوء أهميته الاستراتيجية في معادلات القوة العالمية. غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، ولكنه امتد إلى صراعات بين الدول العربية ذاتها، بل وداخل الدولة الواحدة في بعض الأحيان، وما الخلاف بين شطري اليمن قبل الوحدة حول الحقول النفطية في المناطق الحدودية سوى أحد الأمثلة على ذلك، وفي الحالة السودانية لاشك أن اكتشاف النفط قد عجَّلَ بانفصال الجنوب، لأن الجنوبيين كانوا يشتكون من عدم حصولهم على نصيب عادل من الثروة المكتشفة في أرضهم من ناحية، ولأنهم من ناحية أخرى أصبحوا واثقين من أن دولتهم المستقلة سيكون بمقدورها أن تعتمد على مواردها الذاتية، ولعل الأمر ذاته موجود -مع خلاف في التفاصيل- في الحالة العراقية حيث لعبت الثروة النفطية دوراً رئيساً في تعزيز مطالب الأكراد بفيدرالية عراقية تكاد تصل إلى درجة تفكيك العراق.
وفي السنوات الأخيرة برز الغاز الطبيعي كمصدر مهم للطاقة إلى جوار النفط، وأظهرت التطورات كيف يسير الغاز على خطى النفط كمصدر للصراعات في المنطقة، وإن دارت حتى الآن في نطاق الصراع العربي- الإسرائيلي. وكانت نقطة البداية من مصر التي ارتبطت مع إسرائيل بمعاهدة سلام منذ 1979 نصت على تطبيع العلاقات بين الطرفين، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية بطبيعة الحال، وفي هذا الإطار قامت الحكومة المصرية في ظل النظام السابق بتزويد إسرائيل بالغاز الطبيعي بكميات أظهرت مؤشرات عديدة أنها كبيرة. يضاف إلى ذلك أن السرية التي غلفت هذه العلاقة جعلت فعاليات كثيرة من الشعب المصري تعترض عليها تحديداً، وتطالب بوقفها احتجاجاً على السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين من ناحية، وعلى تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل من ناحية أخرى، التي وصفها وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام الحالي للجامعة العربية بأنها خلطت بين تطبيع العلاقات مع إسرائيل وتدليلها.
هكذا تطورت قضية تصدير الغاز المصري لإسرائيل سواءً من حيث المبدأ أو من حيث الكميات التي تزود بها في ظل الاحتياجات المصرية المتزايدة، أو من حيث الأسعار المتدنية بالمعايير العالمية التي راج أن الحكومة المصرية تبيع بها الغاز لإسرائيل، والتي كانت بمنأى عن أي رقابة برلمانية بالنظر إلى أن الطرف القائم بالبيع شركة خاصة تشتري الغاز من الحكومة المصرية ثم تبيعه لإسرائيل، وهذا على المستوى القانوني الشكلي. أما من الناحية الفعلية فلم يكن ثمة شك في ضلوع حكومات النظام السابق في تصدير الغاز لإسرائيل، وقد قام نشطاء سياسيون مصريون برفع قضايا في المحاكم المصرية تطالب بوقف تصدير الغاز لإسرائيل، وكسبوا هذه القضايا في محاكم أول درجة لتلغى الأحكام بعد ذلك في المحاكم الأعلى، وإن اضطرت المحكمة التي أصدرت آخر حكم في هذا الصدد إلى التوصية بضرورة مراجعة أسعار التصدير.
وعندما نجحت ثورة يناير 2011 في الإطاحة بالنظام السابق اشتد عود الحركات المطالبة بتخلص مصر من هذه العلاقة الخاسرة اقتصاديّاً وسياسيّاً، وتم تفجير خط الأنابيب الذي يزود إسرائيل بالغاز ثلاث مرات منذ نجاح الثورة وحتى الآن، الأمر الذي لاشك أنه أشعر إسرائيل بالخطر على مستقبل وارداتها من الغاز المصري. وقبل ذلك كانت إسرائيل قد وقفت بالمرصاد كقوة احتلال لأية عملية لاستغلال الغاز المكتشف قبالة سواحل غزة منذ عام 2000. ثم جاءت الحلقة الثالثة في بروز الغاز كمصدر جديد مهم من مصادر الصراع بين العرب وإسرائيل في اكتشافات الغاز الإسرائيلية التي تمت في مياه إقليمية مشكوك في تبعيتها القانونية لإسرائيل، وذلك نتيجة غياب أي ترسيم للحدود البحرية مع لبنان، مع العلم بأنه بينما يوافق لبنان على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار فإن إسرائيل واحدة من الدول القليلة التي لم تنضم لهذه الاتفاقية حتى الآن.
كان من الطبيعي أن يسعى لبنان إلى الحصول على موارده الطبيعية من الغاز في ظل حدود بحرية متفق عليها، وأن يعترض وزير الطاقة اللبناني على عمليات التنقيب في منطقة بحرية لم تُرسَم فيها حدود مياه لبنان الإقليمية، واستفاد في هذا الموقف من تصريح المنسق العام للأمم المتحدة في لبنان الذي أعلن أن المنظمة الدولية تدعم حق لبنان في استخراج كافة الثروات الطبيعية الموجودة ضمن مياهه الإقليمية. وكان مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة قد زود الإدارة القانونية في المنظمة الدولية بخرائط رسمية تظهر الحدود البحرية للبنان بغرض تثبيت حقه وسيادته على كامل حدوده البحرية. واستشعرت الإدارة الأميركية خطورة الوضع فبعثت الدبلوماسي "فريدريك هوب" مع خبير للخرائط لمتابعة المشكلة والعمل على إيجاد حلول لها، وقد زار المبعوثان كلاً من إسرائيل ولبنان دون أن يصدر عنهما شيء، كما كلف الأمين العام للأمم المتحدة قيادة القوات الدولية (يونيفيل) مهمة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ولكن هذا كله لم يفض إلى شيء.
وكان طبيعيّاً كذلك أن ترفض إسرائيل الموقف اللبناني، فقد اغتصبت وطناً بأكمله، وشردت معظم شعبه في الشتات، وعملت دائماً على سرقة المياه الفلسطينية والعربية، واستنزفت حقول البترول المصرية أثناء احتلالها شبه جزيرة سيناء (1967 -1982)، وجرفت التربة اللبنانية الخصبة في المناطق التي كانت تسيطر عليها قبل انسحابها الكامل من لبنان عام 2000، فاعترض أمين عام الحكومة الإسرائيلية على الترسيم اللبناني على أساس تعارضه مع الترسيم الإسرائيلي، ثم حاولت إسرائيل بلسان وزير البنى التحتية فيها أن تتخذ المشكلة كالعادة ذريعة لإجراء مفاوضات مباشرة مع لبنان، غير أن كافة المسؤولين اللبنانيين رفضوا هذا العرض كما هو متوقع على أساس أن القانون الدولي هو المعيار الذي يجب أن يُحتكَم إليه في حسم النزاع. ولأن الحكومة الإسرائيلية تدرك جيداً التداعيات الأمنية المحتملة لموقفها هذا، وخاصة أن سجل المقاومة اللبنانية في مواجهة إسرائيل حافل بالإنجازات، فقد سارع وزير الخارجية الإسرائيلي إلى التصريح بأن إسرائيل لن تسمح "بأي استفزاز ضد منشآت الغاز، وسترد بشدة بالغة ضد دولة لبنان".
ولا يتوقع أحد انطلاقاً من سابق الخبرة الإسرائيلية في التعامل مع العرب أن تؤدي الجهود الدبلوماسية والقانونية إلى حل لهذه المشكلة، وخاصة أن قانون القوة هو الذي يحكم عادة علاقة إسرائيل بالأطراف العربية المختلفة. كذلك فإن توقيت تفاقم الأزمة يتزامن مع احتمالات متزايدة لفقدان إسرائيل إمدادات الغاز المصري، ومن هنا تعقد الأزمة واحتمالات تفجر المشكلة، خاصة على ضوء التحذير الذي أطلقه المبعوث الأميركي من أن أزمة الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل يمكن أن تتحول إلى مشكلة أمنية. وفي هذا الإطار لاشك أنه بمقدور المقاومة اللبنانية أن تقض مضاجع إسرائيل في مناطق استخراج الغاز، غير أن التداعيات ستكون خطيرة على أمن المنطقة واستقرارها، ومن هنا ضرورة التضامن العربي مع لبنان، ومحاولة التوصل إلى أساليب جديدة لحماية الحقوق العربية من الأطماع الإسرائيلية، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بنهج جديد لم يتمكن العرب حتى الآن من الاهتداء إليه في العمل على استعادة الحقوق الفلسطينية، فما بالنا بقضية جزئية في الإطار الشامل للصراع العربي- الإسرائيلي.