قال الله تعالى في الحديث القدسي
"...وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه.. "
أخرجه البخاري .
تعريف إجرائي :
افترض أي أوجب وفرائض الله هي حدوده التي أمر بها ونهى عنها .
النوافل : العبادات الزائدة على الفرائض.
النافلة: العطية عن يد.
النفل والنافلة : عطية التطوع من حيث لا يجب.
كثير النوافل أي كثير العطايا والتطوع.
النوفل : السيد المعطاء.
بطش : البطش هو التناول بشدة عند الصولة والأخذ الشديد في كل شيء. وفي الحديث : فإذا موسى باطش بجانب العرش أي متعلق به بقوة. البطش هو الأخذ القوي الشديد. لسان العرب.
إن تأملنا وتدبرنا هذا الحديث القدسي واستخرجنا كلمات جد معبرة وتوحي بمعاني قوية وهي: تقرب، أحب، افترضته، نوافل، فسنجد أن هناك ثلاث مستويات:
- مستوى الفرائض:
قيام الإنسان المسلم المؤمن بالأعمال التي فرضها الله عليه تقربه لا شك منه ، والفرائض كما رأينا في الشرح هي حدوده التي أمر بها ونهى عنها، والله عز وجل هو في غنى عن الإنسان و هذه الحدود هي في صالحه وتخدم سعادته الدنيوية والأخروية، تخدم توازنه وانسجامه مع المكونات الأخرى للكون ، تساعده على القيام بأمانته التي خلق لأجلها وبخلافته لله في الأرض..وقد يتقرب العبد بأشياء كثيرة ولكن أحبها إلى الله هو أن يقوم بما فرض الله له (التوحيد الصلاة الزكاة الصيام بر الوالدين البعد عن الفواحش....) هذه درجة أولى وهي التي تمثل الأساس.
مستوى النوافل :
أما الدرجة الثانية فهي النوافل التي هي فضل وتطوع من المؤمن.
بتطبيقنا للفرائض تحصل القربى من الله، وإن أردنا الإحسان أو المرور إلى مستوى أعلى طبقنا عامل العطاء والفضل منا وما هذا العطاء إلا عطاء لنا، فقمنا بالنوافل.
النوافل لا تقتصر على الصلاة النافلة فقط بل تشمل حسب رأيي كل عطاء من الصدقة التي هي فوق الزكاة الواجبة ....إلى صيام أيام أخرى فوق رمضان ...إلى العمل الاجتماعي التطوعي فوق العمل المأجور ...إلى كظم الغيظ والصبر والعفو عند المظلمة عوض السن بالسن والعين بالعين....
وفي سياق الحديث كلمة " لا يزال " توحي بديناميكية وحركية وفعل فيه استمرارية حتى يصل أو يرقى الإنسان المؤمن إلى أن يحبه الله وحين يقع حب الله نكون بالتالي وصلنا إلى المستوى الثالث.
مستوى ديمومة النوافل وصيانتها :
هو مستوى المحبة الذي لا ينساك الله فيه لأنك لم تنسه، ويكون ذا عطاء كبير لك لأنك أعطيته وعطاؤك له هو عطاء بالدرجة الأولى لك ( العطاء هو ذكره هو استشعار وجوده باستمرارية ،هو الإخلاص له في كل حركة وسكون، مع تجديد النية في كل لحظة ،هو تبجيله ..هو الانسياق له ،هو العبودية في أرقى مستوياتها ....)
تصل في هذا المستوى إلى أن يكون الله سمعك الذي تسمع به، وما معنى يكون هو سمعك ؟؟ أي- حسب رأيي- أنه هو الحفيظ هو الحارس ذو الجلال لسمعك . كيف ؟ نعلم أن حاسة السمع تلتقط من العالم الخارجي المعلومات الصوتية وتنقلها إلى الدماغ ( ومنه الدماغ العاطفي) عبر روابط عصبية فتصل المعلومة ويقوم الشخص بتحليلها وتفسيرها ( وهنا موضع الخطرة والفكرة وتحرير المعلومات والعواطف وإعمال القلب وكل العمليات الذهنية وبالتالي مركز القرار.. ) وبما أن النفس الإنسانية في أصلها وصفها الله في كتابه الحكيم بالضعف والجهل والنقص (وكان الإنسان ضعيفا، وكان الإنسان جهولا وأوتيت الأنفس الشح...) فقد تخطئ القرار والتصرف وبذلك حين يصل الإنسان بالنوافل إلى درجة حاز فيها على حب الله والتقرب منه يدخل في عملية حفظ كبير من الله ،فالمعلومات التي تصل عبر حاسة السمع إلى مركز قرار الإنسان تحظى بعملية الغربلة أو التصفية بفضل الله ولا تبقى إلا المعلومات التي هي في صالح الإنسان والتي تؤدي به إلى الخير( وهذه هي الهداية ) ويرفض الإنسان المعلومات التي من شأنها أن تؤثر فيه سلبا وتدفعه إلى قرارات أو سلوكيات سلبية( وهنا نقطة لقاء كثير من الأدعية مثل : اللهم أنت تعلم الخير لي فاكتبه لي وتعلم الشر لي فأبعده عني...ودعاء : اللهم لا تكلني لنفسي طرفة عين)
فكم من مرة سمعت كلاما أو نوعا من الموسيقى وأحسست في أعماقك أن قلبك يرفضه ؟ ونفس الموسيقى ونفس الكلام يستحسنه آخر .. ما الذي يجعل الفرق بين القلبين أوالشخصين ؟ هو هذا المقياس : مقياس حب الله والدرجة التي وصل لها . يقول الله تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولائك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب 18 سورة الزمر.
وكذلك الشأن بالنسبة للبصر..حين تصلك المعلومة بواسطة حاسة البصر إلى مركز قرارك ( العقل والقلب ) تستطيع بهذا المقياس العظيم أن تتجه إلى أحسن الاختيارات ، وإلا ما الذي يجعل فردا يتمعن في مشاهد تخل بالاحترام و بالحياء وآخر يستعيذ بالله وتكون له قوة تجعله ينصرف بل يتجاوز ذلك إلى الحث على التغيير حسب قدرته بالفعل أو باللسان أو بالقلب ؟ هو هذا المقياس مقياس حب الله، هو هذا النور وهذه الطاقة التي تنير لك الطريق وتجعلك تنظر بعيون الله. وهذا هو مستوى من سماهم المولى " السابقون المقربون"
وكذلك بالنسبة للأعمال التي تمد فيها يدك ويخص الله الأعمال التي تحتاج من الإنسان أخذا بالشدة يكون فيها الله عونا له...وفي هذا المستوى نقطة الاختلاف بين الذي يسرق والذي يصدق ، بين الذي يغضب ويصفع ظلما بيده وبين الذي يكظم الغيظ ويسامح بل يلاطف.
أما بالنسبة للأرجل فالقضية لها علاقة بالتوجه إلى الأماكن التي تختار أنت التوجه إليها( فهناك من يختار المسجد وهناك من يختار سهرة موسيقية صاخبة مثلا هناك من يختار مجلس علم وهناك من يختار الذهاب إلى مقهى للسهر والسمرو" قتل الوقت " هناك من يذهب برجليه إلى الزنا وهناك من يتعفف ويتطهر بل ينبذ ذلك ..) هي تلك القوة أو الطاقة التي تدفعك إلى القرار الصائب والسليم هو مقياس حب الله .
كيف نحصل على هذه الطاقة أو النور ؟؟؟
يقول الله عز وجل : " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولائك في ضلال مبين " "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد " 22.23. سورة الزمر.
ما تشير إليه الآية له علاقة بالذكر ؟ ما هو حال ذكرنا لله ؟ هل هو موجود أم لا ؟ ؟ وإذا كان موجودا فما هي كميته وكيفيته ؟
حال الذكر( بالمفهوم الواسع للكلمة ):
هل نصلي أم لا؟ فالصلاة بالنسبة لي هي نوع من الذكر، هو اتصال دائم بالله وهو ركن من أركان الإسلام " فالصلاة إذن ذكر والذكر لغة وكلام، حين يردده الإنسان المؤمن ويتدبره ويستبطنه يصبح القلب لينا يمتص المعاني الجميلة ويخشع لله وبالتالي يحرز على النور بخلاف من عمل حاجزا على سمعه ( وقالوا..في آذاننا وقر .5 سورة فصلت) يقسو قلبه..
كمية الذكر: هل نقتصر فيه على الفرائض أم نرقى بالنوافل ؟
كيفية قيامنا بالذكر : ،وهذه النقطة في غاية الأهمية ،هل نحن نصلي ونذكر ونعطي الصدقات ...بخشوع وتدبر؟ فكلما كنا حاضرين بجوارحنا وقلوبنا يعني كنا متدبرين لما نردده في دواخلنا من كلمات ومعاني ( وهي الآيات والدعاء )مستشعرين لها ، متأملين لأعمالنا في علاقتنا مع الخالق ،كلما زادت السكينة والراحة النفسية والتقرب من الله وانعكس ذلك على أجسادنا وشعرنا بالهدوء والاسترخاء ( علاقة النفس بالجسد ) ، وهذا يمثل نوعا من الطاقة التي تنعكس على الذات كلها . يقول الطبيب والباحث المتخصص في علوم الأعصاب أنطونيو داماسيو :" حينما نرى أو نسمع نلمس ، نتذوق أو نحس ، الجسد والعقل يساهمان كليهما في التفاعل .." وهنا نشير إلى الدور الهام الذي تلعبه اللغة،( والذكر لغة) أي مجموعة أفكار ومعاني تشكل بالتالي فكر الإنسان وهويته وبالتالي سلوكه وشخصيته ومصيره.
لقد تطورت نظرة المعرفة والبحث في العلوم الطبية وميدان علوم الأحياء وميدان علم النفس العصبي وعلم النفس عموما وأصبح التوجه نحو البحث فيما يستطيع أن " يساعد الإنسان على إدراك السعادة التي يبحث عنها التقدم منذ قرنين "( أنطونيو داماسيو)، عوض أن يكون صوت الباحث العلمي ( خاصة الأطباء وعلماء الأعصاب) مقتصرا فقط على البحث في الحياة والبقاء( أنطونيو داماسيو)..وهذا لا يتحقق في نظري إلا إذا تم الجمع في البناء المعرفي الإنساني للمستقبل بين الإيمان والعلم ومن هنا أهمية العمل الذي يقوم به كثير من المفكرين المسلمين لما يسمونه " أسلمة المعرفة حيث يقول الدكتور خالص جلبي : " أن أسلمة العلوم وإنسانيتها أو المعرفة هو ليس أكثر من رد الشيء إلى الحيز الذي يجب أن يكون فيه ، حتى يؤدي وظيفته على الوجه الأمثل " ولا أرى الوجه الأمثل إلا سعادة الإنسان.
حينما أقرأ هذه الكلمات العطرة من القرآن الكريم " ومن يعرض عن ذكري يعش معيشة ضنكا " أحسبها رسالة أو قانونا في شدة الوضوح والروعة لعلماء النفس تبين أن كل من يبعد عن طريق الصلة بالله عاش معيشة الأشقياء ومن هنا عليهم أن يستمدوا طرق العلاج لكل الأسقام النفسية والنفسجسدية .
الله يرزقك ولا يسألك رزقا فقط اجعله حاضرا في قلبك في أي لحظة ، في سكونك وحركتك ،واذكره وتقرب منه بالنوافل، بالعطاء كما أشار إليك وسترى أن الله يوجهك بنوره ( نورا يمشون به) وسترى النعمة الكبيرة والسكينة والسعادة العميقة والحقيقية التي يبحثون عنها في مباحث العلوم النفسية والعلوم العصبية العالمية حاليا ولم يجدوها بعد لأنهم فقط لم يجدوا طريقها الحقيقي : صلة الإنسان بخالقه.