يوم «ماديبا»
احتفل العالم الاثنين الماضي بيوم ميلاد الزعيم الجنوب افريقي نيلسون مانديلا، وقد كان العيد الـ 93 من عمر رجل اعتمدت الأمم المتحدة، وللعام الثاني على التوالي اعتبار مولده مناسبة عالمية لتقديم 67 دقيقة من العمل التطوعي في ميادين مختلفة تسهم في تحسين معيشة الإنسان، وبالأخص في المجالات التعليمية والصحية. وقد اختيرت هذه الدقائق في لفتة تقديراً للأعوام السبعة والستين التي قضاها في الخدمة العامة الرجل الذي ينادونه في بلاده تحبباً ”ماديبا” أي الزعيم المبجل. وتحول اليوم الى تظاهرة دولية للعمل التطوعي في العالم، وللتذكير بمآسي مجتمعات محرومة من أبسط مقومات آدمية الإنسان.
والواقع أن سيرة مانديلا الذي تحول الى أسطورة عالمية، جديرة بالتوقف أمامها، فهذا الرجل أمضى 27 عاما من أجمل سنوات عمره خلف القضبان بسبب نضاله لانتزاع حق شعبه في الحرية والاستقلال والعيش الكريم من المستوطن الأبيض، في ظل أبشع نظام للفصل العنصري عرفته البشرية. وانتخب كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا في العام 1994، ومع هذا لم تغره قوة المنصب وإغراء الكرسي، ليسخرهما للانتقام من سجانيه الذين نكلوا بشعبه، بل اعتبر أن تلك الحقبة من التاريخ صفحة سوداء وقاتمة يجب أن تطوى، وأن على أرض “قوس قزح” أن تمضي في البناء والتقدم على الطريق نحو الرخاء والازدهار. لتصبح جنوب افريقيا على ما هي عليه اليوم من مكانة سياسية واقتصادية عالمية، وغدت أداة مهمة من أدوات نشر السلام والتوسط لحل أزمات القارة التي تستوطنها النزاعات والخلافات الدامية والأوبئة والمجاعات.
لم يفقد “ماديبا” بوصلة الحكمة ونفاذ البصيرة رغم سنوات القهر والذل والعذاب في أقبية السجون، بل أصبحت زنزانته في جزيرة روبين مزاراً سياحياً تدرج ضمن البرامج السياحية في الأرض التي تعرف بأنها”قوس قزح” جراء التنوع العرقي والثقافي والجغرافي والثراء الذي تزخر به.
“ماديبا” عندما انتهت فترته الرئاسية، لم يطلب التمديد، ولم يتحول الى وصي على شعبه يساومهم بأن يحكمهم الى الأبد أو يبيدهم كما تباد الجراثيم. ولم يعلن نفسه عميدا لمناضلي العالم، أو ملكا لملوك افريقيا، ليطالب بهذا الُملك الأبدي، خاصة أن بلاده أقوى وأغنى دولة افريقية. ولكن الرجل فضل التقاعد بعد أن أدى الدور الوطني المطلوب منه، وسلم الراية لجيل جديد من القادة، وها هي بلاده في عهدة ثالث رئيس ينتخب ديمقراطياً بعد الاستقلال. وبينما ينعم بتقاعده يتقاطر على دارته قادة ومشاهير العالم لتحية الرجل الذي آثر تسطير درس في التسامح والوطنية الحقة بدلاً من البطش والترويع والانتقام.
فهل يتعلم البعض من سير عظماء الرجال الذين يتذكرهم التاريخ بكل إجلال وتقدير ومهابة؟!