حقوقي
فجأة يخرج علينا الناشط الحقوقي، يأتي من كل فج عميق، يأتي لاهثاً، أشعث أغبر مكفهراً، يتحدث بلباقة الاتقياء الأوصياء على حقوق الإنسان، يأتي ببذلة مهذبة مرتبة، مخضبة، برائحة العوالم المتقدمة، ليحلل ويدلل، ويكثر ويقلل، ويسهب فيحلل، فيما يخص الديمقراطية في العالم العربي. بالعربي الفصيح أن في هذا الزمن، في هذا المكان العربي، صار كل من لا شغل له مشغولاً بحقوق الإنسان العربي، مهموماً بهمومه، مسقوماً بسقومه، والكلام يتدفق كالشلال من أفواه ما كانت تعرف أو حتى تستطيع أن تتفوه بكلمة واحدة عن حقوق الإنسان، ولكن الطفرة الحقوقية التي اجتاحت المكان العربي، والتي جاءت مع مجيء الثورات والفورات والتطورات المتلاحقة التي حيرت الفهيم، وأتعست عبدالعليم، ودوخت عبدالحليم، وعبدالحكيم، وصارت حقوق الإنسان أشبه بـ “القات” يورم الخدود، ويزيد القدود حتى انشطر السودان إلى سودانين، والصومال إلى شيء من الأسافين، والعراق حالته تصعب على الكافر، واليمن يئن وسوريا ترن وتحن، وليبيا بين المطرقة والسندان، ومصر وتونس لا تزالان في حالة الإجهاض العسير، والمراقب يترقب ويثقب في الإبرة حفرة لعله يرى ما يراه النائم ساعة الفزع الأكبر.
والناشط الحقوقي ينشط أكثر، ويختط في غيمة اللفظ خطوطاً عريضة من التحاليل المخبرية، العابثة في تجارب ما أنزل الله بها من سلطان. والمشاهد يتابع ويطالع، الدماء العربية تسيل مدرارة هنا وهناك، والناشط لم يزل يحدج ويغنج، وينسج خيوطاً دقيقة أقرب إلى خيوط شباك الصيد، ويلقي باللائمة على هذا النظام وذاك، وفي كثير من الأحيان يشتم ويبصم بالعشرة أن هذا النظام خائن للأمانة، وذاك النظام خارج زمانه. وننتهي من التحليل أن الناشط لم يقل شيئاً غير أنه تكلم كثيراً، وأرعد وأزبد، وجعل العيون تبحلق في وجهه المحتقن لم تخرج إلا نتيجة واحدة أن كل ما قاله لا يقود إلا إلى فراغ ستتلوه فراغات أخرى، ولا جدوى من الحديث عن حقوق الإنسان لأن الذي لا يعرف الواجبات لا يأخذ حقوقاً، ومن لا يأخذ حقوقاً فهو إنسان وجد على هذه الدنيا لكي يتكلم فقط، سواء تحت سقف برلمان أو على شاشة فضائية، أو حتى في المجالس الخاصة، ذات الهمس والغمز واللمز. المهم في الأمر أن الناشط الحقوقي لم يكن في يوم من الأيام ذا صلة بالواقع إلا بعد أن لمع البرق اليماني، وتحجبت الزنقة، وصارت درعا السورية مهبط الوحي الحقوقي، وتغيرت هوية الميادين إلى “هايد بارك”.