هل يستطيع الانسان ان يختزل مسيرة حياته الطويلة بثلاث كلمات...ثلاث كلمات فقط؟
الروائي الفرنسي ستاندال تمكن من التقاط كلمات حياته الثلاث فاوصى بكتابتها على شاهد قبره...عاش ، كتب ، احب...
وربما يكون شاعر تشيلي الكبير بابلو نيرودا، قد استانس كلمات ستاندال،فاوحت لع بعنوان الكتاب الذي باح فيه للدنيا بسيرة حياته المحتشدة بمتع العيش طولا وعرضا، والق الحب والكتابة وقد حملت السيرة عنوانا يتقاطع مع كلمات ستاندال.."اشهد انني عشت" لكنها في الداخل غاصت عميقا في تفاصيل العيش والكتابة....الكفاح والعشق.
ثم جاء المخرج الروسي سيرجي ايزنشتين ليغبط ستاندال على كلماته الثلاث، لكنه شاء ان يختار كلمات اخرى تبدو اكثر تعبيرا عن تجربته في الحياة.ومع شكه بان كلمات ثلاث ستكون قادرة على جعله يرقد بهدوء في سريره الترابي الاخير، الا انه اختار ان تكون كلماته ...عاش ،فكر ، شغف.
الكلمات الثلاث التي اختارها اميل حبيبي لتلخص تجربته الحياتية والنضالية، كانت نفسها التي اختارها عنوانا لكتابه المفقود، الذي جمع فيه مقالاته في جريدة الاتحاد..منذ بداية الاربعينيات وحتى بداية الثمانينيات....باق في حيفا..وهي الكلمات التي استقرت على شاهد قبره،كما اوصى بذلك ليواصل بقاءه في المدينة التي لاتكل من تامل البحر....وانتظار العائدين.
في الحكاية القديمة...يوصي الملك الحكيم اعظم مؤرخي عصره بان يكتب له مختصرا لتاريخ البشرية فقد يشكل الكتاب المرجو وعيا بتجارب الزمن تستهدي به الاجيال الاتية في طريقها نحو المستقبل.
ولقد عكف المؤرخ على مشروعه سنوات طوالا، عاد بعدها الى الملك بعشرات المجلدات التي تترنح تحت ثقلها الجمال التي حملتها عبر الصحراء..
اهذا هو المختصر...
تساءل الملك متعجبا ثم اضاف..
الا يمكن اختصاره؟
هز المؤرخ راسه بتثاقل....ثم عكف على مجلداته زمنا اخر طويلا...حتى اختصرها الى خمسة.
وعندما عاد بها الى الملك من جديد...استقبله جلالته بترحاب وهو يقول بلهجة لاتخلو من اعتذارملكي شديد اللباقة والتهذيب..
يبدو ان الضعف الذي اصاب بصري سيجعلني اطلب منك اختصارهذه المجلدات....الى واحد ان امكن.
ورغم ان المؤرخ وجد صعوبة في ذلك ، الا انه هز راسه بصعوبة بالغة، وغاب زمنا اخر ، ليعود بعده وبيده مجلده الصغير الذي يحوي خلاصة التاريخ وعصارة حكمته.
شكره الملك على جهده غير انه قال له..
جئت الى متاخرا....فقد فقدت بصري نهائيا وتشتت ذهني، فلن اكون للاسف قادرا على قراءة المجلد، ولقد وهن الجسد مني وامتلا القلب شيبا، واخشى ان لايمهلني العمر للاصغاء الى ما جاء فيه اذا ما طلبت من احدهم ان يقرا لي..
وقد تردد الملك طويلا قبل ان يطرح طلبه على المؤرخ الطاعن في التاريخ والحكمة قائلا..
هل لك ان تلخص لي ما جاء في المجلد......بثلاث كلمات...ثلاث كلمات فقط ؟؟؟؟
نعم يا مولاي ملخص الكتاب يقول..."ولدوا....تعذبوا....ماتوا..."
ثلاث كلمات تلخص عمرا يتوزع بين الحب والكتابة الفكر والتفكير ، الكفاح وشغف الابداع ، وتختزل تاريخ امم وقبائل....وشعوبا متفرقة لم يؤلف الله بين قلوبها، وحكايات ممالك وملوك وحكام عبروا التاريخ وهم يتصارعون....ليغرقوا الارض بالدم ثم يعقدوا معاهدات صلح ما وقعت.....الا لتخترق.
وفي بحر الكلمات يبحث كل منا عن كلماته الثلاث.....يجدها او لايجدها..لكنه غالبا ما يدعي انه يبحث عنها طويلا...وما وجدها...ربما لكي لايندم على غيرها من كلمات لاتعد ولا تحصى، قالها او كتبها... والتي ستبدو نافلة....وخارج الحياة ومسيرة الزمان..وربما ...حتى لا يصوغها او يكتبها وصية على شاهد قبره،....فيندم على عمر ضيعه، وضاع فيه وعنه.