كلنا نموت
كتب: الشيخ علي الطنطاوي
هل رأى أحد منكم يوماًجنازة ؟ هل تعرفون رجلاً كان إذا مشى رج الأرض، و إن تكلم ملأ الأسماع، و إن غضب راعالقلوب، جاءت عليه لحظة فإذا هو جسد بلا روح، و إذا هو لا يدفع عن نفسه ذبابة، و لايمتنع من جرو كلب ؟!
هل سمعتم بفتاة كانت فتنة القلب و بهجة النظر، تفيضبالجمال و الشباب، و تنثر السحر و الفتون، تبذل الأموال في قبلة من شفتيهاالمطبقتين كزر ورد أحمر، و تراق الكبرياء على ساقيها القائمتين كعمودين من المرمر،جاءت عليها لحظة فإذا هي قد آلت إلى النتن و البلى، ورتع الدود في هذا الجسد الذيكان قبلة عُبّاد الجمال، و أكل ذلك الثغر الذي كانت القبلة منه تشترى بكنوز الأموال ؟!
هل قرأتم في كتب التاريخ عن جبار كانت ترتجف من خوفه قلوب الأبطال،ويرتاع من هيبته فحول الرجال، لا يجسر أحد على رفع النظر إليه، أو تأمل بياض عينيه،قوله إن قال شرع، و أمره إن أمر قضاء، صار جسده تراباً تطؤه الأقدام، و صار قبرهملعباً للأطفال، أو مثابة ( لقضاء الحاجات) ؟!
هل مررتم على هذهالأماكن، التي فيها النباتات الصغيرة، تقوم عليها شواهد من الحجر، تلك التي يقاللها المقابر ؟!
فلماذا لا تصدقون بعد هذا كله، أنّ في الدنيا موتاً ؟!
لماذا تقرؤون المواعظ، و تسمعون النذر فتظنون أنها لغيركم؟ و ترون الجنائزو تمشون فيها فتتحدثون حديث الدنيا، و تفتحون سير الآمال و الأماني .. كأنكم لنتموتوا كما مات هؤلاء الذين تمشون في جنائزهم، و كأن هؤلاء الأموات ما كانوا يوماًأحياء مثلكم، في قلوبهم آمال أكبر من آمالكم، و مطامع أبعد من مطامعكم ؟!
لماذا يطغى بسلطانه صاحب السلطان، و يتكبر و يتجبر يحسب أنها تدوم له؟ إنهالا تدوم الدنيا لأحد، ولو دامت لأحد قبله ما وصلت إليه. و لقد وطئ ظهر الأرض من همأشد بطشاً، و أقوى قوة، و أعظم سلطاناً؟ فما هي ... حتى واراهم بطنها فنسي الناسأسماءهم !
يغتر بغناه الغني، و بقوته القوي، وبشبابه الشاب، و بصحتهالصحيح، يظن أن ذلك يبقى له... و هيهات !
و هل في الوجود شيء لا يدركهالموت ؟
البناء العظيم يأتي عليه يوم يتخرب فيه، و يرجع تراباً، و الدوحةالباسقة يأتي عليها يوماً تيبس فيه، و تعود حطباً، و الأسد الكاسر يأتي عليه يوميأكل فيه من لحمه الكلاب، و سيأتي على الدنيا يوم تغدو فيه الجبال هباءً، وتشققالسماء، و تنفجر الكواكب، و يفنى كل شيء إلا وجهه .
يوم ينادي المنادي : {لمن الملك اليوم} .
فيجيب المجيب : { لله الواحد القهار } .
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت .
فاذكروا الموت لتستعينوا بذكره على مطامعنفوسكم، وقسوة قلوبكم، اذكروه لتكونوا أرق قلباً و أكرم يداً، و أقبل للموعظة، وأدنى إلى الإيمان، اذكروه لتستعدوا له، فإنّ الدنيا كفندق نزلت فيه، أنت في كل لحظةمدعو للسفر، لا تدري متى تدعى، فإذا كنت مستعداً: حقائبك مغلقة و أشياؤك مربوطةلبيت و سرت، وإن كانت ثيابك مفرقة، و حقائبك مفتوحة، ذهبت بلا زاد و لا ثياب،فاستعدوا للموت بالتوبة التي تصفي حسابكم مع الله، و أداء الحقوق، ودفع المظالم،لتصفوا حسابكم مع الناس .
و لا تقل أنا شاب .. و لا تقل أنا عظيم .. و لاتقل أنا غني ..
فإن ملك الموت إن جاء بمهمته لا يعرف شاباً و لا شيخاً، ولا عظيما و لا حقيراً و لاغنياً و لا فقيراً ..
و لا تدري متى يطرق بابكبمهمته !!
المصدر :كتاب مقالات في كلمات