أيّها الضّاربُ في الحُلكة المضطربُ القدم في المنحدر الوعر أتمثّلك تخشى الزّلق وترهبُ الوحشة ، ألا فليهدأ منكَ الرّوع .. ما أنتَ بالأعزلِ في حبوكِ المحفوفِ بالعثار وحولكَ قلبٌ صادقُ الحنان موقوفٌ على مودّتك ، هائمٌ باستلالكَ من الكدرة ، يترسّمُ خطوكَ بوجدِ المفتون ومرجاتُهُ .. كلُّ مرجاته أن يكونَ عُكّازكَ في مسيركَ وسياجكَ في سعيك ، فيردّ عنكَ الضّيم ويدفع المحنة . هذا قلبُ أمّك ، أمّك باعثتّكَ إلى النّور على احتمالٍ ومشقّة وناثرةُ أيّامكَ بأملِ المتشهّي ومسرّة الرّاضي عن نصيبه من عطاء الزّمن .. أمّك الباسمة لبسمتك دون أن تدري ما يهيبُ بكَ إلى البسمة والملتاعة للوعتك حتّى وهي تجهلُ حافزك إلى الكمدةِ والضّنى
أيّها الباكي من خيبة ، المتوجّعُ من ظلامة ، المهجورُ إلامن الغدر ، النّائي عن كلِّ مرحمة ، إنّي لأتحسّسك في مدلهمّ الحيرة تريدُ الوقوعَ على الإخلاص فلا تهتدي وتبغي الإفضاءَ بالنّجوى إلى من يشاطركَ اللهفة فلا تجدُ حولكَ كيفما ملتَ بباصرتيك غير نطاقٍ من إعراض وعالمٍ من شماتة ، هل ضاعت منكَ أمُّك ؟ وارحمتاهُ لأمِّك .. أمّك الحادبةُ عليكَ في الرّزيئة المتهالكةُ على انتشالكَ من البؤس ، الشّاربةُ من كأسك على رفعةٍ وغضاضة ، المنتحلةُ لكَ الأعذار في الضّلالة ، أمُّكَ الملحّةُ في أن تكونَ فديتك في الدّهمة ، والواهبةُ لك بسماحٍ روحها في معرضِ مبيعِ الأرواح
مسكينٌ أنتَ بلا أمّ ، فلا العطف تلقى ، ولا الوفاء ، ولا الودّ ، ولا المغفرة فليس من يجودُ عليكَ بالنّظرة الصّافية وبالكلمةِ النّصوح . وليسَ من يضمّكَ إلى صدرهِ بريئاً من مأربٍ وهوىً ، ولا من يرجو لك الهناءة دونَ أن تثورَ فيه شهوةُ المقاسمة
أمُّكَ درعُكَ الصّادقةُ الذّود ، وأنيسُكَ الصّحيحُ المخبر ، ونجيُّكَ الحريصُ على سرّك ، وحبيبُكَ غير الطّامع في سوى رغدك وعزّك .. لا كانت ساعةً سلخت العوادي المستذئبةُ منكَ أُمَّك
أتعرفُ من يريدُ لك الخير وإن شقي؟ والكرامةَ وإن ذلّ ؟ والعمرَ وإن فنيَ ؟
أتدري من يؤثركَ على نفسه ، فيرضى بالهوانِ كي تسعدَ ، ويطيبُ له بذلُ الحشاشةِ لكي تدركَ النّجاح ، ويغبطهُ توفيقُكَ وليسَ في ضميرهِ من فوزكَ مطمعٌ ، ويسرّهُ توفيقُكَ ولا شهوة تنزعُ به إلى استظلالِ جاهكَ ، والتّمتّعِ ببسطةِ عيشِكَ
أتعلمُ أيُّ مخلوقٍ يسرفُ لأجلك ضياءَ عينيهِ ، وذوبَ مهجته ، ورهيفَ إحساسه ، يسخو ولا يرجو بدلاً ، ويشقى ولا يفكّرُ في أجرٍ ، ويجاهدُ ولا يبغي نتافةً من شكرٍ فتهزّهُ في سبيلكَ الصّدمة ولا يشكو ، ويعاني السّقمَ ليخلعَ عليكَ العافية ، ويسهرُ عليك الليل لئلا ينبو بكَ المضجع ، ويحرم نفسهُ الطّيّبات كي تتلذّذَ بها وحدك ، ويطغى ألمهُ على ألمك وأنتَ في صرعةِ الدّاء ، ويودُّ لو تكون أنفاسهُ نعلاً لنعليكَ مخافةَ أن تذلَّ بكَ القدم وتخدشكَ العثرة .. أتدري من هو ؟ هو أمُّك أمُّكَ الأمةُ المطواع السّاجدةُ أبداً بينَ يديكَ ليجيبَ مطلبكَ وإن عزّ وتتوفّر على خدمتك وإن جلّت ، راضيةً منكَ بكلِّ أثرةٍ وعنت ، منحنيةً إزاءَ تيهكَ ، فارشةً خدّيها لموطئِ قدميك وليست ترتفعُ من حنجرتها نأمةٌ من تأفّفٍ ، ولا تدهمها انتفاضةٌ من إحجام
أمُّكَ مطعمتكَ لحمها وساقيتُكَ دمها كي تهنأَ وتردّ عنكَ الغواشي الدّهم ، فما تصبرُ عليهِ من دلالكَ لا يحتملُهُ عبدٌ قط ، ولا بدَّ له فيهِ من غُصّةِ مللٍ وزفرة كلال ، إنَّ من هدهدتكَ في أحشائها جنيناً ، وطوّقتكَ بذراعيها وليداً ويافعاً فجعلت لك من صدرها وساداً ، ومن حضنها مهاداً لتطيقَ من طغيانكَ ما تنبو عنهُ تلكَ المفتونةُ بقوامك وبهندامك ، الهائمةُ ببهاءِ طلعتكَ وبشبابك ، الشّغوفُ بعزّتكَ وبجاهكَ ، فكأنَّ منْ ولدَتْكَ استعذبتْ في رضاكَ الرّقّ دونَ أنْ تلتفتَ منكَ إلى نوال فالفداءُ النّصيعُ ما بلغَ يوماً تمامهُ إلا وقد جادتْ عليهِ الأمومةُ بدمها المساح
أمُّكَ أوَّلُ من يطربُ لطربكَ ، وآخر من يمسح عينيهِ من بللِ دمعكَ فالجميعُ ينصرفونَ عنكَ ويتنكّرونَ لكَ ، إلا هذه القانعةُ منكَ بالبرمِ والمهانة والممسكةُ على حبِّكَ وعهدِكَ حتّى وأنتَ رِمّةٌ من عظام
أمّكَ ينبوعُ الحنان في جدوبةِ الزّمن . ولن تدركَ قدرها إلا وقد ابتليتَ بفقدِها فالقبرُ يميلُ بكَ إلى اليقين أنَّهُ نزعَ منكَ ، وهو ينتزعُ أمّكَ ، معدن الإخلاص وعنوان الفداء وكنز المبرّة وإنّكَ لتسيرُ بعدها في النّاسِ فتشعر باليتم وإن تكن بالغاً أشدّكَ ، وتلمسُ حولكَ فراغاً وإن تكن متربّعاً بعزّة سلطان.. أمُّكَ وحدها تكنُّ لكَ وحدكَ الودَّ الصّادقَ والحبّ الطّهور . فينزل بها إجحافُكَ ولا تحاسبكَ في غبن ، وتلقى إعراضكَ وتتماسكُ على الضّيم ، على حين تدهمك الجفوة لبادرة حنقٍ عارضة تفجأُ بها من تتوهمهم ينطوونَ لكَ على عهدٍ وميثاقٍ . إن هم إلا طلاب حاجة فإن فازوا بها منك شكروا . وإن خابوا كفروا وأشاحوا عنكَ إشاحةَ العيوف عن الفضالة
أمُّكَ دونَ سواها تحبّكَ عاجزاً ، ومفلساً ، وشيخاً ، ومنبوذاً ، وعليلاً نضوَ أوصاب . فلا تتبرّأُ منكَ في بؤسِكَ ولا تشمخُ عليكَ في مذلّتكَ
أمُّكَ .. لا تستهنْ بأُمِّكَ .. أمّك دنياك ، فإن فجعكَ بها القدر فقد جارَ عليكَ وحرمكَ سنداً لن تقوَ على اجتيازِ أيّامكَ على اطمئنانٍ وأنتَ خلو منه ، فتطوي بقيةَ زمنكَ أشبهُ بالتّائهِ وقد فاتهُ الدّليل ، وبالمقصومِ الظّهرِ وقد انكسرت عصاه