قصه قصيرة
أغلقتْ الحاجة أم ممدوح باب البيتْ وراءها ومضتْ تجوبُ الفناءَ على ضوءَ النجومّ الباهتة
في خُطواتَ أضعفتها مُر السنين تمسْكُ بيدهَا العصَا لكي تتكئ
عليها كُلما راودها التعبُ وتصاعد الألمُ في قدميها .
تناولتْ الإبريق من على الطاولة التي غيّر لونُها بريق الأيام وقسوتها ومسكت فنجانها
وسكبت كوبً من الشاي بطعم النعناع لتُريح عقلها من عناءَ التفكير في زوجَها أبو ممدوح
الذي توفي في المُعتقل منذُ سبعة عشرةَ عاماً وأبنها الوحيد ممدوح الأسير الفلسطيني في السجون
منذُ بضعة أشهُر فهي أرملةُ الذكريات فلا زوجُ يؤنسُ وحدتها ولا ولدُ يُريح أمومتها لكن
ما يُميزها أنها قنوعة بأن إنجابها لولدً واحدً فقط ...!!!
يُكفيها أن ترتشف جُرعه الشوق للأمومة.
مع شُروقَ شمسْ الصْباحَ تستيقظَ أم ممدوح لتبدأ عملها في أرضها وأسمتها بلقيس أرض
بلقيس لأنها كانت تحلُم بان تُنجب أبنه وتُسميها بلقيس لكن عشقها لأرضها فاختاره لها أفضل
ما تُحب مرزعتُها التي ورثتها من زوجها مليئة بشتى المزروعات منها التفاحَ البُرتقال العنب
وغيرها الكثير التي تفوحُ رائحتُها مع ارتفاع نسْماتَ الرياحِ.
تُرهق جسدُها بالتعب والعمل في هذه المزرعة هروباً من التفكير
في ما فقدتهُ وما أُسْر لها لكن بقي لها ابنه واحدة هي بلقيس.
في يومً بائسً يحملُ معهُ صوتَ أطلاق النار من اتجاهات مُتعددة رغم أن أذُنها اعتادت
على صوتُ تلك الموسيقى الطُبوَل جراء الاحتلال كانت تجلسْ بقرب شجرة الزيتون
وبيدها اليُمنى فنجانُ قهوتها الأسمر اللون كانت تتأمل في السماءَ وموسيقى العدو الغاصبَ
تعلو شيئاً فشيئاً وتقترب منها أكثر فأكثر لكنها لم تأبه لمُبادله ذاك الصوت بالخوف والرُعب
فقد كان صوتُ أطلاق النار كأنه المذياع الذي يُرافقُنا
صباحاً كُلما حلتْ بهم أطياف الحُرية لبضع الوقت.
كان صوتُ العصافير يُغرد ونسمات الهدوء تُبدي ابتسامهً صباحيةً فاليوم هو يوم الجُمعة
يوم العائلة فتسترجعُ ذكرياتها مع نصفها الآخر وفلذة كبدها كيف كانت تلهبُ النار
العجين لأعداد الخُبز مع الزيت والزعتر وبعضً من الشاي أغنى فطور بالنسبه لهم.
و كانت تمتزجَ تلك الأيام بالفرح والسعادة رُغم بساطة لقمه العيش الا انها كانت ايام غنيه بالبهجه
في ذاك الوقت نادى صوت الآذان لصلاة الجُمعة فحملت أقدمها بالأيمان
وذهبت إلى المسجد تبغي ربها طاهرة للة تعالى بالدعاء لأبنها ليُفرج عنه قريبا’
وبعد انتهاء من الصلاة عادت الى منزلها و إلى أرضها لا بل إلى بلقيس فقد كان قلبُها على بلقيس كالجمر
هذا ما كانت تشعُرُ بة كُلما بعدت عنها فقد كان بصيصُ شكً يُراودُ
قلبها بان هُناك شئً مُرتقب!!!
ما هو لم تكن تعرفُ بعد؟.
كلما اقتربت المسافة الى أرض بلقيس كُلما ارتجف قلبُها بشكل أسرع لعلهُ لقاءٌ رومانسيٌ في زمن الحرب
والثورة ما أن وصلت إلى المزرعة ارتجفت أقدامُها قبضت يدُها على قلبها اغرورقت عيناها
ووضعت يدها الأُخرى على خدها وصدمهٌ حلت بنبرات جسدها وقالت لا..لا..لا قلبي
لم يخبْ حين تسارعت إقدامي لكِ يا بلقيس فقد كان المُحتل الغاصب قد أقتلع و دمر أرضها و شجرة الزيتون
التي طالما جلست يحدوها وشعرت بالآمان فاقتربت أم ممدوح من الشجرة
ومسكتْ تُراب مزرعتها وصرخت بوجه المحتل لترمي بقايا التُراب
بوجههم لتُحاول صدّ جبروتهم عن أرضها فقّبلت تُراب بلقيس وتنوحُ وترمي التُراب فوق رأسها
وتبكي وتصرخ أنا بعضُ بقايا الحُزن فلتسترح يا موت لم يبقَ لي أطفال ....
وعانقت تُرابها عناقها الأخير كأنه شلالٌ من الحُب الأحمر رقصت رقصتها الأخيرة
بالتُراب ونطقت أرضي لي والتُرابُ هو قُبلتي فعلا صوت النار
و تمازج رمقُ القبلة بدماء أم ممدوح وودعت أرضها بقُبلةً منْ التُرابْ...!!!! !.