حوار بين طالب وأستاذه
لا أدري ما الذي جعلني أتحدَّث عن النظام وتطبيقه في المُجتمعات في أحد الفصول الدراسيَّة، وأُسهِب فيه إسهابًا على خلاف العادة، وأظنُّ أنْ لو لَم يكن هناك سببٌ هيَّج الحديث في هذا الموضوع، لكان جديرًا أو حريًّا أن يذكَّر به، كيف وبواعث الحديث عنه لا تعدُّ ولا تحصى، وفي كل يوم نلحظ اختراقًا لسياج النِّظام، وتهميشًا لتطبيقاته في شتَّى مجالات الحياة؟ وأي أمة تريد أن تنظر إلى مستوى رقيِّها وتقدُّمِها فلْتَنظر إلى احترامها للنظام.
وطبيعةُ التمرُّد على النظام موجودةٌ في الشرقيِّين والعرب أكثر من غيرهم، وإن كان الأمر - ولله الحمد - بدأ يُعالَج ويطبَّق، ولكن ما زالت الخُطَى في ذلك بطيئةً، بل في بعض البيئات بطيئة جدًّا.
ولما حَمِي الكلام أمام الطُّلاب عن أسباب التخلُّف عن النظام، وعدم الاكتراث به، رفع أحد الطلاب يدَه بأدب واحترامٍ أشعرني لأوَّل وهلة أنه منظَّم في طريقة سؤاله.
فقال لي وهو يحترق أسى للواقع: يا أستاذ، أصبت المَحزَّ في حديثك، ووقعتَ على الجرح، ولكن تطبيق النِّظام في بيئة متمرِّدة من الصعوبة بمكان.
فقلت له: لماذا؟
فأجابني بِمثال من صميم واقعه، فقال: إذا دقَّ جرس الفسحة، ووقفتُ في الطابور أنتظر دوري، والجوع يلفُّ بطني أُفاجأ ببعض الطُّلاب عن اليمين والشمائل يتسارعون نحو المَقْصِف، فتُقضى حاجتهم وتُلبَّى رغبتهم، وأنا أتلمَّظ في مكاني تكاد عروقُ رأسي تنفجر، والأدهى والأمَرُّ أنني إذا وصلتُ إلى شباك الباعة أُفاجأ بأنَّ الفطور قد نفد! أتريدني بعد هذا كلِّه أن أتبع النظام، وتضيع مصلحتي وحقوقي؟ أو أتَمرَّد على النظام كما تمرَّد غيري، وأضمن حقِّي كاملاً غير منقوص؟
فقلت له: أنت ذكَّرتَني بقصة موظَّف نزيهِ النفس، متين الدِّيانة، لا يرضى على نفسه الدناءة في استحلال المال الحرام، أو تعطيل العمل من أجل رشوةٍ ومصلحة عاجلة، كان ضميرُه الحيُّ وحِسُّه اليَقِظ ومراقبته لله سببَ متاعبه في وظيفته.
فقال الطالب: كيف يا أستاذ؟
فقلتُ: كان المكان الذي يعيش فيه ويكتسب منه قُوتَه موبوءًا بالخيانة، وتضييع الأمانة، وشراء الضمائر، فهو يرى الموظَّفين من حوله يُعَرقلون النِّظام، ويرى مَن حوله من المديرين وأصحابِ المَناصب يغضُّون الطَّرْف عن هذه التجاوزات كلِّها؛ لأنَّهم لو تكلَّموا لفَضحوا أنفسهم أوَّلاً، ولَم يجترئ مَن تحتهم إلاَّ بسببهم، وأصبح هذا الموظف يعيش معركةً ضروسًا، وصراعًا نفسيًّا بين ضميره الحيِّ الذي يقول له: "لا" للمال الحرام، "لا" لتضييع الحقوق، "لا" لدناءة النَّفْس، وبين داعي الْهَوى والواقع المرير الذي يراه صباحَ مساء، وتثور في نفسه تساؤلاتٌ: لِمَ أنا الوحيد فقط "المنظَّم"؟ لمَ أنا الوحيد فقط "الكافُّ عن الرِّشوة"؟ لمَ أنا الوحيد فقط "اللاَّفت للنظر"؟ أبسبب ضميري أشقى؟ ألأجل أمانتي ونزاهتي أُبغَض مِمَّن حولي؟
وهكذا احتدم الصِّراع في نفسه حتى استطاع أن يتغلَّب على تمرُّد نفسه وبواعث الانفلات على الفضيلة، فرَسخَت قدمه على أرض الشَّرف، ولَم يظفر بما تَصْبو إليه نفوسٌ مِمَّن حوله من عرَضٍ زائل، لكن ظفر بأعظم منال يُمكن أن تتوَّج به الرؤوس؛ وهو رضا الضَّمائر، فليس هناك أعظم من أن يُرضي الإنسانُ ضميره، ويَنفض يديه من كلِّ فتيلٍ يشعل فيها النار، ويكون سببًا في إحراقها.
فقال الطالب: يا أستاذ، لِم لا يُطَبَّق القانون بصرامةٍ وحزم على هؤلاء؛ حتَّى يرتدعوا؟
فقلت: هذا هو المؤمَّل، ولكن إذا كان هناك فراغ في تطبيق النظام والقانون؛ فلن تكون النُّفوس فارغةً من يقظة الحسِّ وتأنيب الضمير، ولن يُملأ فراغُ القانون حتَّى تُملأ فراغات النُّفوس.
فقال الطالب حينها: صدقتَ يا أستاذ
منقول