الطائفية، آفة اجتماعية عانت من شرورها الشعوب الكثيرة ، وكانت في أساس العديد من المذابح وحروب الإبادة الجماعية، نشأ الصراع الطائفي بيت أتباع الديانات منذ نشوء المجتمعات الدينية واستمر التغلغل في الأوساط الشعبية والدولية وتماهى أحياناً مع التمييز العنصري ونذكر على سبيل المثال الصراعات التي نشأت بين الأديان السماوية.
أ ــ الصراع الذي نشأ بين اليهود والمسيحيين من عهد ما بعد المسيح يومنا هذا.
ب ــ الصراع الذي نشأ بين الكنسية الكاثوليكية في روما والكنيسة الشرقية في بيزنطية حول من يتولى السلطة العليا في الكنيسة المسيحية.
ج ــ الصراع الكاثوليكي البروتستاني الذي أسال أنهار الدماء في أوروبا الذي حركة الإصلاحي مارتن لوتر.
د ــ الصراع الإسلامي المسيحي البيرزنطي بعد احتلال العرب الهلال الخصيب وجلاء البيزنطيون عن الأراضي السورية.
هـ ـ الحروب الصليبية التي أشعل نارها الراهب بطرس الناسك وساندته يدعونه لإحتلال الأراضي المقدسة السلطة البابوية الكاثوليكية.
أما الصراعات العرقية أو العنصرية نذكر الأهم وهي كثيرة.
أ ــ حرب الإبادة التي شنها المستعمرون الأوربيون ضد الهنود الحمر في الأمريكتين.
ب ــ الصراع بين طوائف الهند العرقية والدينية .
ج ــ التمييز العنصري بين البرابرة والعرب في شمال أفريقيا
د ــ التمييز العنصري في جنوبي أفريقيا.
هذه الصراعات كان لها امتدادها إلى العالم ومن بينها بصورة خاصة في الشرق العربي ومنها لبنان/ عندما توجه الصليبيون إفتتاح القدس تطوعت كتيبة من المسيحيين في الشمال وسارت في مقدمة الجيوش الصليبية أخوانهم في الدين ويقول المؤرخون بأنهم أبلوا بلاءً حسناً وبعد جلاء الفرنجة عن الأراضي العربية ارتد المسلمون إلى الداخل لمحاسبة المسيحيين على تعاونهم مع أخوانهم الصليبيين في احتلال الأراضي المقدسة.
كما انعكس في لبنان الصراع الطائفي الكاثوليكي الأرثوذكسي على الطوائف المسيحية إلى درجة القطيعة التامة بين الطائفتين ر تزاوج ولا تواصل ولا مشاركة في الطقوس الدينية.
كما نشأ أيضاً الصراع المسيحي بين أتباع طائفة السيئة الواحدة وأتباع طائفة المسيئين وتقاسمهم الفرق الطائفية البعقوبية و البرادعية و التسطورية. وإلا يفضي من كل هذه الصراعات هو إنقسام الطائفة الواحدة إلى ملل ونحل متصارعة، وكل ملة أو نحلة تدعي الفرقة الناجية وهي الفرقة الوحيدة التي تملك الحقيقة ، فانقسم المسيحيون إلى موارنة إلى يعاقبة ــ و برادعة ــ و نساطرة ، وبدورهم أنفسهم المسلمون إلى سنة ــ و شيعة ــ و علوية ــ و دروز ــ و إسماعيلية .
أما العرب إن التعصب دخيل عليهم بدليل ما عرف عنهم من التسامح وسعة الصدر وحرية الفكر والقول في جميع أدوار حياتهم . إنما التعصب الذميم دخل على الأمة العربية بأيدي الأجانب لأسباب خاصة.
لما توفي المعري المتهم بالكفر والزندقة في عصره وقف ثمانون شاعراً وخطيباً على قبره ولو أن وفاته حصلت في زمنا هذا لما تجرأ إنسان على البكاء عليه خوفاً من أن يدان ويحاكم بتهمة المرتد، وقصة الخليفة مع الأخطل المدمن على شرب الخمر مشهورة وقول المأمون : يخلق القرآن معروفة وفي هذا دليل على مبلغ احترامهم لحرية القول والفكر والاعتقاد ولو خالف معتقدهم ولو لا ذلك لما رأينا النصارى يحاربون أبناء دينهم الروم إلى جانب أخوانهم المسلمين ويساعدونهم على فتح سوريا والعراق.
من أين جاء التعصب؟ .. إلى بنية الأمة العربية؟
دخل التعصب الذميم بأيدي الفرس في بداية الأمر منذ أوائل عهد الدولة الأموية انتقاماً لدولتهم التي إزالة بأيدي الفرس في بداية الأمر منذ أوائل عهد الدولة الأموية انتقاماً لدولتهم التي أزالها الفتح العربي عن خريطة العالم .
بعد ذلك جاءت الشعوب التي اعتنقت الإسلام كالترك والشركس والمماليك وفروعهم فشجعت النعرات الدينية اختلافها والطائفية على إذ كان كل حاكم ولاية بعد تجزأة الامبراطورية العربية يتذرع بالدين حفاظاً على توطيد سلطته مستنداً إلى هذا المذهب أو هذه الملة أو هذه النحلة.
وعقب ذلك جاءت الحروب الصليبية فحفرت هوةً عميقة بين الشرق والغرب وانتهزها المفرضون من الكتاب والمؤرخين الإفرنج فرصةً سانحة لتشويه سمعة العرب والإسلام .
ولما انهارت سلطة الدولة العثمانية وأصبحت في طريقها إلى الزوال حيث أطلق عليها الأوربيون صفة" الرجل المريض" وبدأت تحوم حولها أطماع الدولة الغربية لإقتسام ممتلكاتها فبدأوا يرسلون البعثات بأسماء مختلفة دبلوماسية وسياحية وحجج إل القدس إلى البلاد العربية والبعثات التي كانت أشد فعالية في إثارة النعرات الطائفية هي الإرساليات الأجنبية التي كانت تتساهل السلطات العثمانية بالسماح لها بإنشاء المدارس ومعاهد العلم التي تحولت إلى مراكز لإثارة الأحقاد الطائفية وبصورة خاصة في لبنان لتمزيق وحدة الأمة العربية تمهيداً للإستيلاء عليها بعد انهيار الامبراطورية التي كانوا يتوقعون سقوطها بين الحين والآخر وبالمقابل سلكت الدولة العثمانية الطريق ذاتها لإستدرار عطف المسلمين بواسطة الدعابة الدينية لتسهيل مهمتها في حكم الأقطار العربية بإثارة الشقاق والخلاف بين العناصر المختلفة فيها " فرق تسد ".
إلا أن معاهد الإرسليات كانت مؤسسات دعاية منظمة للتعصب الديني أكثر تأثيراً من سواها في توسع شقة الخلاف بين أصحاب المذاهب المختلفة وتمزيق وحدة الشعوب العربية إلى طوائف عديدة متباغضة تريد كل طائفة منها القضاء على غيرها قضاءاً مبرماً والذي ساهم في عملية التمزق هذه هو كون خريجي هذه المدارس قد أعماهم الشعور الطائفي وكانوا على جهل مطبق بالمبادىء الوطنية والقومية وبدون أن يكون هناك رقيب عليها أو موجهٍ لها أو ضابط لحركاتها وسلفائها.
وانعكس هذا الشعور الطائفي في لبنان على أبناء الطائفة الواحدة بدفع من المؤسسات التعليم بين أبناء الطائفة المارونية والإرسالية البروتستانية فأصدر البطريرك منشورين يحتم فيهما على أبناء رعينه بأن لا أحد يقتني كتب البروتسانت أو ببيعها أو يشتريها أو يهبها أو بقرأها ثم يمنع الاشتراك بالصلاة والتعلم في مدارسهم ومطالعة مؤلفاتهم أو الاستخدام عندهم والمعاطاة كافة بأمور الديانة ومتعلقاتها وبأمور عالمية ومن يخالف هذه الإرشادات ومن يخالف هذا الحتم يربط أن كان إكليريكياً أو علمانياً ويسقط تحت الحرم الذي يحفظ حق الحل منه للسلطة البطريركية.
كما انعكس هذا الشعور الطائفي على الطائفة الأرثوذكسية فانشق جماعة من أبنائها والتحقوا بالطائفة الكاثوليكية كما يدعونهم اليوم " الروم الكاثوليك " وقد جرت محاولات لمواجهة الإرساليات الأجنبية والحد من نفوذها الطائفي بإنشاء مدارس وطنية بقصد الابتعاد عن التربية الطائفية والحفاظ على اللغة العربية والجامعة الوطنية العثمانية ومن رواد هذه المحاولة بطرس البستاني الذي أسس سنة 1863 مدرسة وطنية خارج بيروت لا تعني بالتعليم الديني كما أنشئت في استنبول الليسيه "غالاتا" أنشأتها الدولة العثمانية عام 1868 بمنهاج علماني لتربية 150 تلميذ مسلم و150 تلميذ مسيحي فجوبهت بمعارضة شرسة أصدر البابا قراراً بمنع المسيحي الانتساب إليها كما جاراه شيخ الإسلام وحثت روسيا الروم على مقاطعتها .
أما في مصر مضى البريطانيون في تشجيع الرجعية وتنامى الشعور الطائفي بدعوى ضرورة حفاظ مصر إصالفها وتقاليدها إذ كانت الناظرة البريطانية لمدرسة البنات الابتدائية الوحيدة في القاهرة في أوائل القرن العشرين تصر على نبر مع البنات وهن لم يبلغن بعد الحادية عشر من العمر علماً بأن هذه الناظرة هي من رعايا دولة علمانية.
هذا الشحن الطائفي لم يظل مقتصراً على المدارس بل تعداها إلى أعماق طبقات المجتمع اللبناني واستغلت حدته الدول الاستعمارية فوضعت الطائفة المارونية ذاتها تحت رعاية الدولة الفرنسية ورحبت بذلك فرنسا و سبق لملكها لويس التاسع أن اعتبر الموارنة بمرسوم ملكي من رعايا متوزعة بحجة الدفاع عن الدين وأتباعه لتتخذ من هذا الوطن موطىء قدم على أرض الدولة العثمانية الهرمة المريضة لإقتطاع ما أمكن منها حيث تلفظ أنفاسها الأخيرة ووضع الأرثوذكس طائفتهم تحت رعاية روسيا الطامعة بالوصول إلى المياه الدافئة وكذلك فعل الكاثوليك بوضع طائفتهم تحت رعاية النمسا . أما تركيا العثمانية فشددت على تمسكها بالطائفة الإسلامية حفاظاً على ما تبقى لها من هيبة وسلطان في مواجهة الغرب المسيحي في الوقت الذي كان فيه الإسلام تتقاسمه عدة طوائف السنة والشيعة والعلويين والإسماعلية والدروز والتناحر الطائفي يتآكلهم وهو ما يزال حتى تاريخه تتوزعه النزاعات الطائفية والإقليمية.
بلغ الشحن الطائفي الذروة بموازاة أطماع الدول الغربية وكان السبب في فتنة العام 1860 حيث بادرت كل دولة من هذه الدول إلى مساندة أتباعها في مواجهة أتباع الدول الأخرى مما اضطر الدروز إلى الاستعانة ببريطانيا حفظاً على موقعهم الاجتماعي والسياسي وكان ما كان من نهب وسلب ومذابح.
وعلى الأثر أحدثت صيغة المتصرفية وكانت سبقتها صيغة نظام القائمقامين وكلا النظامين كرست فيهما الطائفية في التعيين والانتخاب لكل طائفة مستقرة في وعي اللبنانيين وبات إصلاح هذه الحالة أمراً مستحيلاً أو شبه المستحيل.
وانتهت الحرب العالمية الأولى وانهزمت الدولة العثمانية وتحقق ما كانت تصبو إليه الدول الأوروبية فانتدبت فرنسا على سوريا ولبنان وتمكن المفاوضون برعاية الدولة المنتدبة من قيام دولة لبنان الكبير وطبعته الطوائف المسيحية بطابعها وفرضت عليه امتيازاتها السياسية وجاء دستور الجمهورية الأولى صورة معدلة للقانون الأساسي للمتصرفية على أسس طائفية والجدير بالملاحظة أن هذا النظام الطائفي تزامن فيه الامتياز السياسي والامتياز الاقتصادي وقد منع هذا التزامن تطور النظام السياسي على الأقل في مواجهة تطور الليبرالية الاقتصادية ومكن بعض الكفاءات الطائفية من تحقيق نقلة نوعية في السلم الاجتماعي وفي القيادة السياسية وفي التمثيل النيابي وأكثر هذه الكفاءات من الطوائف المسيحية التي شكلت جداراً من المال لتدعم " بقاء القديم على قدمه " وتزكي الشعور الطائفي على حساب الطوائف الأخرى ويساعد الطوائف المسيحية على لإصرارها بالتمسك ببقاء القديم على قدمه وأسهم بهذه بهذه الواقعة كما جاء على لسان كمال جنبلاط ضعف الزعماء المسلمين بشكل عام، إنهم يجهلون ما يجري في لبنان في وسط الشعب من صراع الوطنية السليمة والتقليد الطائفي وبين الذهنية المنفتحة والذهنية المتحجرة.
وبالرغم من الإصرار على هذه الحالة الطائفية اندفع البعض من كل الطوائف إلى التصدي لها وبالأخص جماهير الطلاب الجامعيين جيل الرفض تساعدها الأحزاب اليسارية وعلى رأسها الحزب التقدمي الاشتراكي والشخصيات الوطنية في مواجهة المفاهيم الدينية من حيث الممارسة لا من حيث العقيدة.
يقول كمال جنبلاط ، إن الطائفية في لبنان ترتكز إلى مفهوم خاطىء للدين إلى مذهبية هي التي اخترعتها وتمسكت بها فأصبح الدين فيها حزب هذا الرسول وذاك الرسول وإذا ذاك توارت فيه واحتجبت عنه الروحية الإنسانية الإلهية التي أوصت به لغاية رفع الإنسان وتطويره وتعميق مفاهيم الحقيقة والعدل والمساواة الجوهرية والأخوة والتضامن فيه . ويشير كمال جنبلاط بأن أكثر من ثلث المسيحين في فترة قيادته الجبهة الوطنية لا يمتثلون للإرشادات الطائفية ولا يقبلون تمثيلها وتوجهها وإزاء الإصرار على التمسك بالنظام الاقتصادي الحر " حرية النهب والسلب والاحتكار والاستقلال " انفجر الكيان اللبناني من الداخل طائفياً وسياسياً وتصاعدت فكرة التقسيم وزوال لبنان الكبير ولم يستقر الوضع إلا بفعل دستور الطائف الذي كرس طائفية الرؤوساء ولم يتعد جدياً للمادة/95/ المعمول بها طائفياً ولم يصدر عنه أي صيغة جدية للقضاء على الطائفية.
لم يطبق دستور الطائف حتى تاريخه وإن نهايته الوطن اللبناني وهويته العربية يبدو أنهما لم يصحيا من المسلمات الوطنية المستقرة في وعي اللبنانيين وعقولهم وضمائرهم. وإنه ما يرزال للطائفية داؤها الذي ينحر المجتمع اللبناني.والشاهد على ذلك المحاصصة وقانون الانتخاب والنظام التربوي والإعلام والدوائر الانتخابية الموزعة على أساس طائفي والمادة/95/ لم يجرِ محاولة جدية لإلغائها والنظام التربوي لم يتغير فيه شيء حتى الآن لكل طائفة جامعتها ومدرستها وكتاب التاريخ لم يوحد وكذلك كتاب التربية والإعلام الوسيلة المثلى لنقل الحقيقة هو إعلام موزع على الطوائف لكل طائفة صحيفتها وإعلامها.
وتحضر في ختام هذا البحث صرخة جبرانية في كتاب الأرواح المتمردة : " لحفظ عروشهم وطمأنينة قلوبهم سلحوا الدرزي لمقاتلة الغربي وحمسوا الشيعي لمصارعة السني ونشطوا الكردي لذبح البدوي وشجعوا الأحمدي لمنازعة المسيحي إلى يتوعد الجار جاره وإلى متى يتباعد الصليب عن الهلال في عين الله.
اللهم امنحنا نعمة الحق لنصون شعبنا ووطننا.