دعونا
نتخيل التالي؛ لو تركنا شركات النصب المحلية التي ادعت التجارة في
البورصات العالمية ماضية في سبيل حالها، سيستمر الناس في الايداع لديها
وستسجل لهم فوائد تضاف على رصيدهم الذي سيتضاعف عدّة مرات. وسوف يتصرف
اصحاب الشركات بالمال الحقيقي، يشترون عقارات ويتاجرون وسوف يصبح لدينا
مليونيرية جدد يبطرون بمظاهر الثراء، وقد تصدر الشركات سندات للمودعين
بأموالهم يطمئنون لها ويتصرفون ببعضها، وربما تحول الشركات نفسها الى
مساهمة عامّة تستخدم أموال المودعين كأسهم تأسيسية لاصحاب الشركات وستجد
الاسهم اقبالا واسعا وسترتفع قيمتها الاسمية مرّات وستصبح شركات مالية
يشار لها بالبنان.
لكن لو قررالمساهمون فجأة بيع اسهمهم وأصحاب الودائع استرداد أموالهم
فسينهار كل شيء، ستكون هناك عقارات وارصدة حقيقية تغطي جزءا ضئيلا من
الثروة المفترضة! ألا يشبه هذا بصورة ما العالم الذي انهار، نعني عالم
البورصات والأسهم والسندات؟ ألا يشبه هذا - بدرجة ما - ما كان يجري عندنا
من تأسيس شركات مساهمة تلم نقود الناس وتتضخم قيمة أسهمها بصورة لا تتناسب
ابدا مع أصولها أو الحجم الحقيقي لأعمالها؟
فوق الاقتصاد الحقيقي، اقتصاد الصناعة والزراعة، اقتصاد انتاج السلع والخدمات يوجد اقتصاد افتراضي، اقتصاد
الائتمان والاسهم والسندات تضخمَ وطغى وانفصل عن الواقع، وهذا النموذج بلغ
الذروة في الولايات المتحدة حتّى لحظة انهياره التي جرفت معها أكبر اقتصاديات العالم. وفقاعة الرهن العقاري تشبه من بعض الأوجه فقاعة اقتصاد
تكنولوجيا المعلومات. فقد اصبح تقييم شركات الخدمات والبرامج الالكترونية
والانترنت يعتمد على التوقعات والتقدير المفترض لحصّتها في السوق. وشركة
من دون اصول مادّية تقريبا تصبح قيمتها كأسهم بالبلايين استنادا الى
التوقعات وقد انتفخت سوق اسهم هذه الشركات حتّى انفجرت الفقاعة قبل سنوات.
آثار الأزمة تطال بقوّة الاقتصاد
الحقيقي وعموم المواطنين. فقد لحق الخراب بملايين المساهمين الأغنياء
والفقراء على السواء وفقدت عشرات ألوف المشاريع التمويل الذي تحتاجه، وسوف
يتراجع النمو والوظائف والدخول، ولكبح التدهور تتدخل الدول دراماتيكيا
لشراء الديون والمؤسسات وتوفير السيولة من المال العام.
لحسن الحظ أن نظامنا المصرفي تقليدي يقوم على اسس منضبطة تحت الرقابة الصارمة للبنك المركزي و"الاقتصاد
الأفتراضي" اضيق كثيرا في بلدنا، فالتوريق لم ينتشر بعد وتسنيد الديون
محدود. وعليه فالبنوك في منأى عن الأزمة ويجب عدم افتعال أجواء هلع. وقد
هوت الأسهم عندنا من دون مبرر وظهرت ادّعاءات بتسييل الخليجيين اسهمهم
لحاجتهم للمال مع ان حصّتهم في سوقنا قشّة في كومة استثماراتهم وثبت على
كل حال ان الدعاية غير صحيحة، والذي يبيع الآن يخسر فقط لصالح أقوياء
السوق.
لدينا على كل حال دروس نستفيدها وحين يدعو جلالة الملك لجعل العام
المقبل عام الزراعة - التي أهملناها الى درجة اعتبارها قطاعا منقرضا - فهو
يؤشر تماما الى الصحوة التي يجب ان تعيدنا الى الاقتصاد الحقيقي.