مع اشراقة شمس ذلك اليوم الربيعيّ...كل شيء كان قد اصطبغ بلون الذهب المعصفر...المنبعث على هيئة خيوط رفيعة...تتموج مع نسمات الصباح العليلة...لتعانق جداول الماء المترقرق بين الصخور الملساء....يلفّها هدوء ريفيّ...فلا تسمع الا صياح الديكة وزقزقة العصافير ودقات قلبي المتسارعة....
مضيت حاملا حقيبتي...أرنو الى ماحولي أتلمس بنظراتي أشجار الزيتون ودوالي الكرمة وبراعم الأزهار الفتية ترطّبها قطرات الندى البريئة...
مشى أمامي ...حاولتُ تجنّبه تارة عن يمين وأخرى عن شمال...لكنه كان في كل مرة يقف سداً منيعاً...فتراه يحاكي حركاتي ويقلّد سكناتي...
بادرني :الى أين ؟؟؟
قلت ممتعضاً : وما شأنك ؟؟!!
قال : مجرد فضول!!!
أجبته بلهجة الثائر: أنا ذاهبٌ الى حيث اللاشرق !!! سأهجر كل مايقرّبني الى الـ "هنا "...سأخلع عباءتي الشرقية وأركل كل ترّهات الزمن المقيتة...وأطوي صفحات البؤس المقزّزة...وأمحو من ذاكرتي آهات الماضي المؤلم....
نعم سأمضي الى اللاشرق ...الى حيث حياة الترف المزخرفة بأطياف السعادة وأنغام الهناء...الى نعيمٍ تكلّله بهارج الدنيا ...هناك سأقيم مملكتي التي لطالما بنيت لها في مخيلتي بنياناً باسقاً يطاول الثريا....
قال: هل أنهيت كلامك لأقول فتسمعني ؟؟؟
قلت : بلى...
فقال: على رسلك ياصاحبي ...فلا تكن عجولاً في اطلاق احكام انفعالية متهورة...لذا أجبني :
أوَ تظنُّ ثورتك هذه التي فيها تسلّحت بالمجهول قد تجلب لك النصر الذي تنشد...؟؟؟
أوَ تظنُّ أنّ حياة اللاشرق الصاخبة بمؤثرات الحضارة الزائفة.... ستغنيك عن ليلة سمر صيفية تقضيها على ضوء القمر... بين أعواد الريحان وأزهار الياسمين التي لطالما ألقت في روعك شعراً عذباً حلـّقتْ فيه روحك في فضاءات الخيال الفسيح...؟؟؟
أوَ تظنُّ أنّ رائحة الغازات والأدخنة المنبعثة في سماء اللاشرق.... ستغنيك عن شذى تلك الجورية والاقحوانة اللتين زرعتهما قبالة الباب ...والى اللحظة ماانّفكّا يبثّان عبيرهما الأخّاذ في حنايا بيتك... دونما انتظارأجر أو حفنة عطاء...؟؟؟
أوَ تظنُّ أنّ وجبات " الكنتاكي "و "الماكدونالدز " ستنسيك طعم طبق السبانخ البلدي...ورغيف التنّور الساخن ...وكأس اللبن الطازج...؟؟؟
أوَ تظنُّ...؟؟؟ أوَ تظنُّ...؟؟؟ أوَ تظنُّ...؟؟؟
وصار يردّد أقوالاً - لطالما غفلت عنها- وجدت لها صدىً عميقاً في نفسي...
قلت : كفى...وانعقد لساني عن الجواب....
ثم بحركة عفوية ساذجة... قفلت راجعاً أدراجي ماحياً آثار أقدامي...
وألقيت انتباهة الى الخلف لانظر صاحبي فرأيته يرقص جذلان فرحاً ...ثم نظرت الى نفسي فرأيتني أقـلـّده....